ثم أمره - تعالى - بأن يستعيذ به من وساوس الشياطين ونزغاتهم فقال : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } .
وقوله : { هَمَزَاتِ } جمع همزة وهى المرة من الهمز . وهى فى اللغة النخس والدفع باليد أو بغيرها . يقال : همزه يهمزه - بضم الميم وكسرها - إذا نخسه ودفعه وغمزه .
ومنه المهماز ، وهو حديدة تكون مع الراكب للدابة يحثها بها على السير .
والمراد بهمزات الشياطين هنا : وساوسهم لبنى آدم وحضهم إياهم على ارتكاب ما نهاهم الله - تعالى - عنه .
أى : وقل - أيها الرسول الكريم - يا رب أعوذ بك ، واعتصم بحماك ، من وساوس الشياطين ، ومن نزغاتهم الأثيمة ، ومن همزاتهم السيئة ، وأعوذ بك يا إلهى وأتحصن بك ، من أن يحضرنى أحد منهم فى أى أمر من أمور دينيى أو من دنياى ، فأنت وحدك القادر على حمايتى منهم .
وفى هذه الدعوات من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم من همزات الشياطين - تعليم للمؤمنين ، وإرشاد لهم ، إلى اللجوء - دائما - إلى خالقهم ، لكى يدفع عنهم وساوس الشياطين ونزغاتهم .
وقوله : { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } أي : في شيء من أمري ؛ ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور - وذلك مطردة للشياطين{[20659]} - عند الأكل والجماع والذبح ، وغير ذلك من الأمور ؛ ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الهَرَم ، وأعوذ بك من الهَدْم ومن الغرق ، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت " {[20660]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم ، من الفزع : " بسم الله ، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون " قال : فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها ، كتبها له ، فعلقها في عنقه .
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث محمد بن إسحاق{[20661]} ، وقال الترمذي : حسن غريب .
وقوله { أن يحضرون } أن يكونوا معي في أموري فإنهم إذا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز فإذا لم يكن حضور فلا همز .
قال الفقيه الإمام القاضي : وأصل الهمز الدفع والوخز بيد وغيرها ومنه همز الخيل وهمز الناس باللسان وقيل لبعض العرب أتهمز الفأرة ، سئل بذلك عن اللفظة فظن أن المراد شخص الفأرة فقال الهر يهمزها .
يجوز أن تكون جملة { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } عطفاً على جملة { قل رب إما تريني ما يوعدون } [ المؤمنون : 93 ] بأن أمره الله بأن يلجأ إليه بطلب الوقاية من المشركين وأذاهم ، فيكون المراد من الشياطين المشركين فإنهم شياطين الإنس كما قال تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ويكون هذا في معنى قوله : { قل أعوذ برب الناس } إلى قوله { الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس } [ الناس : 1 6 ] فيكون المراد : أعوذ بك من همزات القوم الظالمين أو من همزات الشياطين منهم .
والهمز حقيقته : الضغط باليد والطعن بالإصبع ونحوه ، ويستعمل مجازاً بمعنى الأذى بالقول أو بالإشارة ، ومنه قوله تعالى : { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم } [ القلم : 11 ] وقوله : { ويل لكل هُمزة لمزة } [ الهمزة : 1 ] .
ومحمله هنا عندي على المعنى المجازي على كلا الوجهين في المراد من الشياطين . وهمز شياطين الجن ظاهر ، وأما همز شياطين الإنس فقد كان من أذى المشركين النبي صلى الله عليه وسلم لمزه والتغامز عليه والكيد له .
ومعنى التعوذ من همزهم : التعوذ من آثار ذلك . فإن من ذلك أن يغمزوا بعض سفهائهم إغراء لهم بأذاه ، كما وقع في قصة إغرائهم من أتى بسلا جزور فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته حول الكعبة . وهذا الوجه في تفسير الشياطين هو الأليق بالغاية في قوله { حتى إذا جاء أحدهم الموت } [ المؤمنون : 99 ] كما سيأتي .
وأما قوله : { وأعوذ بك رب أن يحضرون } فهو تعوذ من قربهم لأنهم إذا اقتربوا منه لحقه أذاهم .