ولما كان هذا ظلمًا منهم وعنادًا ، لم يبق فيهم مطمع للهداية ، فلم يبق إلا عذابهم ونكالهم ، ولهذا قال : { فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } وهو الكفر والمعاصي ، فإنها أسوأ ما كانوا يعملون ، لكونهم يعملون المعاصي وغيرها ، فالجزاء بالعقوبة ، إنما هو على عمل الشرك{[774]} { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا }
وقد رد - سبحانه - على فعلهم هذا بما يناسبه من تهديد فقال : { فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
أى : فوالله لنجعلن الذين كفروا بهذا القرآن والذين شوشوا على قارئيه بالصياح والاستهزاء ، لنجعلنهم يذوقون العذاب الذى يهينهم ، ويحسون به إحساسا أليما . ولنجزينهم فى الآخرة الجزاء المناسب لقبح أعمالهم التى عملوها فى الدنيا .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى : جزاء سيئات أعمالهم التى هى فى أنفسها أسوأ ، فأفعل للزيادة المطلقة وقيل : إنه - سبحانه - لا يجازيهم بمحاسن كإغاثة الملهوف ، وصلة الأرحام وإكرام الضيف . . لأن هذه الأعمال قد حبطت بسبب كفرهم . .
وقال الجمل فى حاشيته : وفى هذا تعريض بمن لا يكون عند سماعه لكلام الله خاضعا خاشعا متفكرا متدبرا . وتهديد ووعيد شديد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارئ ويخلط عليه القراءة ، فانظر إلى عظمة القرآن المجيد ، وتأمل فى هذا التغليظ والتشديد ، واشهد لمن عظمه وأجل قدره ، وألفى إليه السمع وهو شهيد ، بالفوز العظيم .
ورداً على قولتهم المنكرة يجيء التهديد المناسب :
( فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً ، ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون . ذلك جزاء أعداء الله النار ، لهم فيها دار الخلد ، جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون ) .
وسرعان ما نجدهم في النار . وسرعان ما نشهد حنق المخدوعين ، الذين زين لهم قرناؤهم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وأغروهم بهذه المهلكة التي انتهى إليها مطافهم :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال الله جلّ ثناؤه:"فَلَنُذِيقنّ الّذِينَ كَفَرُوا" بالله من مشركي قريش الذين قالوا هذا القول عذابا شديدا في الآخرة.
"وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَسْوَأَ الّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ "يقول: ولنثيبنهم على فعلهم ذلك وغيره من أفعالهم بأقبح جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لنُذيقنّ الذين كفروا، وداموا على الكفر حتى ماتوا على ذلك، فأما من كفر في وقت ثم ترك ذلك، وأسلم فليس له ذلك، ثم من الناس من يقول: إن قوله {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} أراد به في الدنيا وقوله {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لهم محاسن في الدنيا، لكن تلك المحاسن تبطُل، ولا يُجزَون بها شيئا وإنما يُجزَون على المساوئ التي عملوها في الدنيا؛ لأن المحاسن إنما تثبت وتبقى، ويُستوجب بها الجزاء إذا أتوا بالإيمان والتوحيد، فإذا لم يأتوا به لم ينتفعوا بتلك المحاسن ولم يُجزَوا بها. وقد ذكر للمؤمنين مقابل ذلك أنه يكفّر عنهم سيئاتهم، ويجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، وهو قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ} يجوز أن يريد بالذين كفروا: هؤلاء اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة، وأن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فلنذيقن} الفاء دخلت على لام القسم، وهي آية وعيد لقريش.
والعذاب الشديد: هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها.
والجزاء بأسوأ أعمالهم: هو عذاب الآخرة.
{فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا} لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب الشديد، فإذا كان القليل منه عذابا شديدا فكيف يكون حال الكثير منه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما استحقوا بهذا العقوبة، سبب عن ذلك مؤكداً لإنكارهم قوله تعالى: {فلنذيقن} وأظهر في موضع الإضمار تعميماً بالوصف فقال: {الذين كفروا} أي هؤلاء وغيرهم {عذاباً شديداً} في الدنيا بالحرمان وما يتبعه من فنون الهوان وفي الآخرة بالنيران {ولنجزينهم} أي بأعمالهم. ولما كان من قدر على الأغلظ، قدر على ما دونه قال: {أسوأ} أي جزاء أسوأ العمل {الذي كانوا} بما هو لهم كالغرائز {يعملون} مواظبين عليه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
دلت الفاء على أن ما بعدها مفرع عما قبلها: فإمّا أن يكون تفريعاً على آخِر ما تقدم وهو قوله:
{وقَالَ الذينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لهذا القُرآن} [فصلت: 26] الآية، وإمّا أن يكون مفرعاً على جميع ما تقدم ابتداء من قوله: {وقالوا قلوبنا في أكِنَّة مما تَدْعُونا إليه} [فصلت: 5] الآية {فَإِنْ أَعْرضُوا} [فصلت: 13] الآية وقوله: {ويَوْمَ نَحْشر أعداء الله إلى النَّار} [فصلت: 19] الآية وقوله: {وَقَيَّضْنَا لهم قُرَنَاءَ} [فصلت: 25] الآية وقوله: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا} [فصلت: 26] الخ. وعلى كلا الوجهين يتعين أن يكون المراد ب {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا: المشركين الذين الكلام عنهم.
{أسوَأَ الذي كانُوا يعمَلُونَ} منصوب على نزع الخافض. والتقدير: على أسوأ ما كانوا يعملون، ولك أن تجعله منصوباً على النيابة عن المفعول المطلق تقديره: جزاء مماثلاً أسوأَ الذي كانوا يعملون.
وأسوأ: اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، وإنما أريد به السّيئ، فصيغ بصيغة التفضيل للمبالغة في سوئه. وإضافتُه إلى {الذي كانُوا يعمَلُونَ} من إضافة البعض إلى الكل وليس من إضافة اسم التفضيل إلى المفضل عليه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون) فهل لهؤلاء عمل أسواً من الكفر والشرك وإنكار آيات الله ومنع الناس وصدّهم عن سماع كلام الحق؟
لكن لماذا أشارت الآية إلى «أسوأ» بالرغم من أنّهم يرون جزاء كلّ أعمالهم؟
قد يكون هذا التعبير للتأكيد على موضوع الجزاء والتهديد به بيان حديثه، وفيه إشارة لمنعهم الناس عن سماع كلام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
كما أنّ قوله تعالى: (كانوا يعملون) دليل على أنّه سيتمّ التأكيد على الأعمال التي كانوا يقومون بها دائماً، وبعبارة أخرى: إنّ ما يعملونه لم يكن أمراً مؤقتاً بل كانت سنتهم وسيرتهم الدائمة.