ثم يحكى لنا القرآن بعد ذلك موقف السحرة بعد أن رأوا بأعينهم أن ما فعله موسى - عليه السلام - ليس من قبيل السحر فقال : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } أى : خبروا سجدا ، كأنما - كما قال الزمخشرى - قد القاهم ملق لشدة خرورهم أو لم يتمالكوا أنفسهم مما رأوا فكأنهم ألقوا .
والمراد أن ظهور بطلان سحرهم ، وإدراكهم بأن موسى على الحق ، قد حملهم على السجود لله - تعالى - وأن نور الحق قد بهرهم وجعلهم يسارعون إلى الإيمان حتى لكأن أحدا قد دفعهم إليه دفعا ، وألقاهم إليه إلقاء .
قد عطف عليه جملة { فغُلبوا } بالفاء لحصول المغلوبية إثر تلقف العصا لإفكهم .
و { هنالك } اسم إشارة المكان أي غلبوا في ذلك المكان فأفاد بداهة مغلوبيتهم وظهورها لكل حاضر .
والانقلاب : مطاوع قَلَبَ والقلب تغيير الحال وتبدله ، والأكثر أن يكون تغييراً من الحال المعتادة إلى حال غريبة .
ويطلق الانقلاب شائعاً على الرجوع إلى المكان الذي يخرج منه ولأن الراجع قد عكس حال خروجه .
وانقلب من الأفعال التي تجيء بمعنى ( صار ) وهو المراد هنا أي : صاروا صاغرين . واختيار لفظ { انقلبوا } دون ( رَجعُوا ) أو ( صاروا ) لمناسبته للفظ غُلبوا في الصيغة ، ولما يشعر به أصل اشتقاقه من الرجوع إلى حال أدون ، فكان لفظ ( انقلبوا ) أدخل في الفصاحة .
والصّغَار : المذلة ، وتلك المذلة هي مذلة ظهور عجزهم ، ومذلة خيبة رجائهم ما أملوه من الأجر والقرب عند فرعون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فغلبوا هنالك}، يعني عند ذلك، {وانقلبوا صاغرين}، يعني فرجعوا إلى منازلهم مذلين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فغَلَب موسى فرعونَ وجموعه "هُنالِكَ": عند ذلك، "وَانْقَلَبُوا صَاغرِينَ "يقول: وانصرفوا عن موطنهم ذلك بصُغرْ مقهورين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فغلبوا هنالك} [أي عند ذلك غلب السحرة لأنهم قالوا لفرعون في الابتداء {إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين} فذكر ههنا أنهم غُلبوا عند ظهور الحق، لا أنهم صاروا غالبين. وقوله تعالى: {فغلبوا هنالك}] ليس غلبة القهر والقسر، ولكن غلبة بالحجج والبراهين؛ أي غلبوا بالآيات والحجج. وقوله تعالى: {وانقلبوا صاغرين} قال بعض أهل التأويل: رجع السّحرة لمّا غلبوا صاغرين مذلّلين. لكن نقول: رجع فرعون وقومه إلى منازلهم مذلّلين، لا السحرة، لأن السحرة قد آمنوا، فلا يحتمل أن يوصفوا بالرجوع صاغرين مذلّلين، وقد رجعوا مع الإيمان.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والغلبة: الظفر بالبغية من العدو.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وانقلبوا صاغرين}: وصاروا أذلاء مبهوتين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم سبب عن هذا قوله: {فغلبوا هنالك} أي عند هذا الأمر العظيم العالي الرتبة {وانقلبوا} أي جزاء على قلبهم لتلك الحقائق عن وجوهها حال كونهم {صاغرين} أي بعد أن كانوا -عند أنفسهم ومن يقول بقولهم وهو الأغلب- عالين، ولا ذل ولا صغار أعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله على وجه لا يكون فيه حيلة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} أي فغلب فرعون وملأه في ذلك المجمع العظيم الذي كان في عيد لهم ويوم زينة من مواسمهم ضربه موسى موعدا لهم بسؤالهم كما بين في سورة طه {قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى} [طه: 59] لتكون الفضيحة ظاهرة مبينة لجماهير الناس، ولم يقل فغلبهم موسى لأن ذلك لم يكن بكسبه وصنعه – "وانقلبوا "أي عادوا من ذلك المجمع صاغرين أذلة، بما رزئوا به من الخذلان والخيبة، أو صاروا صاغرين. وإنما خص هذا بفرعون وملئه وكان المتبادر أن يكون للسحرة أولا وبالذات ولفرعون بالتبع أو للجميع على سواء، لأنه تعالى بين ما كان من عاقبة السحرة بقوله: {وألقي السّحرة ساجدين}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
"فَغُلِبُوا هُنَالِكَ" أي: في ذلك المقام. "وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ" أي: حقيرين قد اضمحل باطلهم، وتلاشى سحرهم، ولم يحصل لهم المقصود الذي ظنوا حصوله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...والانقلاب: مطاوع قَلَبَ، والقلب: تغيير الحال وتبدله، والأكثر أن يكون تغييراً من الحال المعتادة إلى حال غريبة.
ويطلق الانقلاب شائعاً على الرجوع إلى المكان الذي يخرج منه لأن الراجع قد عكس حال خروجه.
والصّغَار: المذلة، وتلك المذلة هي مذلة ظهور عجزهم، ومذلة خيبة رجائهم ما أملوه من الأجر والقرب عند فرعون.
ولم يغلب السحرة فقط، بل غلب أيضا فرعون وجماعته، وعاش كل من هو ضد موسى في صَغَار، صغار للمستدعى وصغار للمستدعِي.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتحطّم كل ذلك الجبروت وتحوّل إلى كيانٍ ذليلٍ صاغرٍ أمام الحقيقة القوية الصارخة، ووقف السحرة في موقف التأمّل والتفكير. ولم يطل بهم الموقف كثيراً، فما كان منهم إلا أن آمنوا بموسى عندما ألقى عصاه، ووجدوا أن ذلك ليس في مستوى السحر بل هو شيء فوق ذلك كله، مما لم يألفوه ولم يعرفوه في كلّ ما شاهدوه وعرفوه من أساليب السحر، فعرفوا أن ذلك كله من الله سبحانه لا من موسى، وهذا ما جعل دعوته في مستوى دعوات الأنبياء الذين يتميزون بقدراتٍ غير عاديّةٍ، في ما يقومون به من معاجز، وما يقدمونه من آيات، فانفتحوا على الإيمان بكل قوّةٍ وابتهالٍ وخشوعٍ.