وهنا يجيبهم فرعون بقوله : نعم لكم أجر مادى جزيل إذا انتصرتم عليه ، وفضلا عن ذلك فأنتم تكونون بهذا الانتصار من الظافرين بقربى وجوارى . فهو يغريهم بالأجر المادى ويعدهم بالقرب المعنوى من قلبه تشجيعا لهم على الإجادة ، وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والمهارة والتضليل ، وإنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة الغالبة التي لا يستطيع الوقوف في وجهها الساحرون ولا المتجبرون وغيرهم .
هذا ، وقد اختلف الفسرون في عدد هؤلاء السحرة فقيل ، كانوا اثنين وسبعين ساحراً ، وقيل كانوا أكثر من ذلك بكثير .
( قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ )
ولقد أكد لهم فرعون أنهم مأجورون على حرفتهم ، ووعدهم مع الأجر القربى منه ، زيادة في الإغراء ، وتشجيعاً على بذل غاية الجهد . . وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والبراعة والتضليل ؛ إنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة القاهرة ، التي لا يقف لها الساحرون ولا المتجبرون !
ومعناه المقربين مني ، وروي أن السحرة الذين جاءوا إلى فرعون كانوا خمسة عشر ألفاً قاله ابن إسحاق ، وقال ابن جريج كانوا تسعمائة ، وذكر النقاش أنهم كانوا اثنين وسبعين رجلاً ، وقال عكرمة : كانوا سبعين ألفاً قال محمد بن المنكدر كانوا ثمانين ألفاً ، وقال السدي مائتي ألف ونيفاً .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال ليس لها سند يوقف عنده ، وقال كعب الأحبار : اثني عشر ألفاً ، وقال السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل مع كل رجل حبل وعصا ، وقال أبو ثمامة : كانوا سبعة عشر ألفاً .
جملة : { قالوا إن لنا لأجراً } استئناف بياني بتقدير سؤال من يسأل : ماذا صدر من السحرة حين مثُلوا بين يدي فرعون ؟ .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحفص ، وأبو جعفر { إن لنا لأجراً } ابتداء بحرف ( إن ) دون همزة استفهام ، وقرأه الباقون بهمزة استفهام قبل ( إن ) .
وعلى القراءتين فالمعنى على الاستفهام ، كما هو ظاهر الجواب ب { نعم } ، وهمزة الاستفهام محذوفة تخفيفاً على القراءة الأولى ، ويجوز أن يكون المعنى عليها أيضاً على الخبرية لأنهم وثقوا بحصول الأجر لهم ، حتى صيروه في حيز المخبر به عن فرعون ، ويكون جواب فرعون ب { نعم } تقريراً لما أخبروا به عنه .
وتنكير { أجراً } تنكير تعظيم بقرينة مقام المَلِك وعظم العمل ، وضمير { نحن } تأكيد لضمير { كنا } إشعاراً بجدارتهم بالغلَب ، وثقتهم بأنهم أعلم الناس بالسحر ، فأكدوا ضميرهم لزيادة تقرير مدلوله ، وليس هو بضمير فصل إذ لا يقصد إرادة القصر ، لأن إخبارهم عن أنفسهم بالغالبين يغني عن القصر ، إذ يتعين أن المغلوب في زعمهم هو موسى عليه السلام .
وقول فرعون { نعم } إجابة عما استفهموا ، أو تقرير لما توسموا : على الاحتمالين المذكورين في قوله : { إن لنا لأجراً } آنفاً ، فحرف ( نعم ) يقرر مضمون الكلام الذي يجاب به ، فهو تصديق بعد الخبر ، وإعلام بعد الاستفهام ، بحصول الجانب المستفهم عنه ، والمعنيان محتملان هنا على قراءة نافع ومن وافقه ، وأما على قراءة غيرهم فيتعين المعنى الثاني .
وعُطف جملة : { إنكم لمن المقربين } على ما تضمنه حرف الجواب إذ التقدير : نعم لكم أجر وإنكم لمن المقربين ، وليس هو من عطف التلقين : لأن التلقين إنما يعتبر في كلامين من متكلميْن لا من متكلم واحد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} فرعون: {نعم وإنكم لمن المقربين}، في المنزلة سوى العظمة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال فرعون للسحرة إذ قالوا له: إن لنا عندك ثوابا إن نحن غلبنا موسى قال: نعم، لكم ذلك، وإنكم لممن أقرّبه وأدنيه مني.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعنى "من المقربين "إنكم من المقربين إلى مراتب الجلالة التي يكون فيها الخاصة، ولا يتخطى فيها العامة. وفي الآية دليل لقوم فرعون على حاجته وذلته لو استدلوا واحسنوا النظر لنفوسهم، لأنه لم يحتج إلى السحرة إلا لذلة وعجز، وكذلك في طلب السحرة الأجر دليل على عجزهم عما كانوا يدعون من القدرة على قلب الأعيان، لأنهم لو كانوا قادرين على ذلك لاستغنوا عن طلب الأجر من فرعون، ولقلبوا الصخر ذهبا ولقلبوا فرعون كلبا واستولوا على ملكه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ظنوا أنهم يَغلِبُون بما يسحرون، ولم يعلموا أن تأثير القدرة فيهم أغلب من تأثير سحرهم، وأنه لا يرد عنهم ما زَوَّرُوه في أنفسهم من فنون مكرهم فكادوا وكِيدَ لهم... فَبَيْنَاهم في توهِّم أنَّ الغلبة لهم، فُتِحَ عليهم من مكامن القدرة جيشٌ، فوجدوا أنفسهم -في فتح القدرة- مقهورين بسيف المشيئة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} ما الذي عطف عليه؟ قلت: هو معطوف على محذوف سدّ مسدّه حرف الإيجاب، كأنه قال إيجاباً لقولهم: إن لنا لأجراً: نعم إنّ لكم لأجراً، وإنكم لمن المقرّبين، أراد: إني لا أقتصر بكم على الثواب وحده، وإنّ لكم مع الثواب ما يقل معه الثواب، وهو التقريب والتعظيم، لأنّ المثاب إنما يتهنأ بما يصل إليه ويغتبط به إذا نال معه الكرامة والرفعة.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفي ذلك من المبالغة في الترغيب والتحريض ما لا يخفى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال نعم وإنّكم لمن المقرّبين} أي قال فرعون مجيبا لهم إلى ما طلبوا نعم إن لكم لأجرا عظيما وإنكم مع ذلك الأجر المالي أو المادي لمن المقربين من جنابنا السامي، فيجتمع لكم المال والجاه وذلك منتهى نعيم الدنيا ومجدها. أكد لهم نيل ما طلبوه منه وما زادهم عليه تأكيدا بعد تأكيد لاهتمامه بهذا الأمر وخوفه من عاقبته، فإنه لو قال لهم نعم ولم يزد عليها لأفاد إجابة طلبهم، ولو قال في منحة القربي: وتكونون من المقربين، لكفى ولكنه عبر عنها بالجملة الاسمية المؤكدة بإن وبتحلية الخبر باللام وبعطف التلقين أي عطف {وإنكم لمن المقربين} على الجملة المقدرة التي دل عليها حرف الإيجاب "نعم "وهي {إن لكم لأجرا} فما عطف عليها إلا وقد قدر إعادتها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وعدهم الأجر والتقريب، وعلو المنزلة عنده، ليجتهدوا ويبذلوا وسعهم وطاقتهم في مغالبة موسى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ويكون جواب فرعون ب {نعم} تقريراً لما أخبروا به عنه. وضمير {نحن} تأكيد لضمير {كنا} إشعاراً بجدارتهم بالغلَب، وثقتهم بأنهم أعلم الناس بالسحر، فأكدوا ضميرهم لزيادة تقرير مدلوله وليس هو بضمير فصل إذ لا يقصد إرادة القصر، لأن إخبارهم عن أنفسهم بالغالبين يغني عن القصر، إذ يتعين أن المغلوب في زعمهم هو موسى عليه السلام.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذكر لهم أجرين أحدهما مادي، والثاني معنوي، أما الأول فهو المال الذي طلبوه، والثاني رضاه عنهم، وتقريبه لهم وهذا ما كان يعبر في حكم الملوك بالرضا السامي، وعبر به الطغاة في كل زمان بعد أن ضمنوا الأجر والقرب، إن كانوا هم الغالبين.
{وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}. وهذا دليل على أنه ينافقهم أو يبالغ في مجاملتهم؛ لأنه يحتاج إليهم أشد الحاجة. وهكذا نجد ألوهية فرعون قد خارت أمام المألوهين السحرة. وقوله: {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} هذه تدل على فساد الحكم؛ لأنه مادام حاكما فعليه أن يكون كل المحكومين بالنسبة إليه سواء. لكن إذا ما كان هناك مقربون فالدائرة الأولى منهم تنهب على قدر قربها، والدائرة الثانية تنهب أيضا، وكذلك الثالثة والرابعة، فنجد كل الدوائر تمارس فسادها مادام الناس مصنفين عند الحاكم. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما جلس الصحابة يستمعون إليه كان يسوّي بين الناس جميعا في نظره حتى يظن كل إنسان أنه أولى بنظر رسول الله، ولا يدني أحدا ويقربه من مجلسه إلا من شهد له الجميع بأنه مقرب..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويستفاد من هذه الآية أنّ التقرب إلى فرعون في ذلك المحيط وتلك البيئة كان أعلى وأسمى وأهم من المال والثروة، لأنّه كان يعني منزلة معنوية كان من الممكن أن تصبح منشأ لأموال كثيرة وثروات كبيرة.