{ وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى } أى : ويتجنب الذكرى ، ويبتعد عن الموعظة ، ويتجافى عن النصيحة ، الإِنسان الشديد الشقاوة والتعاسة ، الذى أبى إلا الإِصرار على كفره وعناده ، وخلا من خشية الله - تعالى - . والمراد بالأشقى : الجنس ، أى : يبتعد عن الانتفاع بالتذكير جميع الأشقياء وهم الكافرون .
وقيل : المراد به الكافر المتوغل فى كفره كأبى جهل والوليد بن المغيرة وأشباههما .
( ويتجنبها الأشقى ) . . يتجنب الذكرى ، فلا يسمع لها ولا يفيد منها . وهو إذن( الأشقى )الأشقى إطلاقا وإجمالا . الأشقى الذي تتمثل فيه غاية الشقوة ومنتهاها . الأشقى في الدنيا بروحه الخاوية الميتة الكثيفة الصفيقة ، التي لا تحس حقائق الوجود ، ولا تسمع شهادتها الصادقة ، ولا تتأثر بموحياتها العميقة . والذي يعيش قلقا متكالبا على ما في الأرض كادحا لهذا الشأن الصغير ! والأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى :
{ وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } أي : لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه ، بل هي مضرة عليه ؛ لأن بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم العذاب ، وأنواع النكال .
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سليمان - يعني التيمي - عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أهل النار الذين هم أهلها لا{[29972]} يموتون ولا يحيون ، وأما أناس يريد الله بهم الرحمة فيميتهم في النار فيدخل عليهم الشفعاء{[29973]} فيأخذ الرجل أنصاره فينبتهم - أو قال : ينبتون - في نهر الحياء - أو قال : الحياة - أو قال : الحيوان - أو قال : نهر الجنة فينبتون - نبات الحبَّة في حميل السيل " . قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما ترون الشجرة تكون خضراء ، ثم تكون صفراء أو قال : تكون صفراء ثم تكون خضراء ؟ " . قال : فقال بعضهم : كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالبادية{[29974]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن أناس - أو كما قال - تصيبهم النار بذنوبهم - أو قال : بخطاياهم - فيميتهم إماتة ، حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة ، فجيء بهم ضبائر ضبائر ، فنبتوا على أنهار الجنة ، فيقال : يا أهل الجنة ، اقبضوا عليهم . فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل " . قال : فقال رجل من القوم حينئذ : كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية .
ورواه مسلم في حديث بشر بن المفضل{[29975]} وشعبة ، كلاهما عن أبي مَسْلَمة سعيد بن زيد ، به مثله{[29976]} ورواه أحمد أيضا عن يزيد ، عن سعيد بن إياس الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل النار الذين لا يريد الله إخراجهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، وأن أهل النار الذين يريد الله إخراجهم يميتهم فيها إماتة ، حتى يصيروا فحمًا ، ثم يخرجون ضبائر فيلقون على أنهار الجنة ، أو : يرش{[29977]} عليهم من أنهار الجنة فينبتون كما تنبت الحبَّة في حميل السيل " {[29978]} .
وقد قال الله إخبارا عن أهل النار : { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] وقال تعالى : { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى .
وقوله : سَيَذّكّرُ مَنْ يَخْشَى يقول جلّ ثناؤه : سيذّكّر يا محمد إذا ذَكّرت الذين أمرتك بتذكيرهم من يخشى الله ، ويخاف عقابه ويَتَجَنّبُها يقول : ويتجنّب الذكرى الأشْقَى يعني : أشقى الفريقين الّذِي يَصْلَى النّارَ الكُبْرَى وهم الذين لم تنفعهم الذكرى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَذَكّرْ إنْ نَفَعَت الذّكْرَى سَيَذّكّرُ مَنْ يَخْشَى فاتقوا الله ، ما خَشِي الله عبد قطّ إلاّ ذكره ويَتَجَنّبُها الأشْقَى فلا والله لا يتنكّب عبد هذا الذكر زهدا فيه وبُغضا لأهله ، إلاّ شقيّ بَيّنُ الشقاء .
والتجنب : التباعد ، وأصله تفعل لتكلف الكيْنونة بجانببٍ من شيء .
والجانب : المكان الذي هو طَرَف لغيره ، وتكلفُ الكينونة به كناية عن طلب البعد أي بمكان بعيد منه ، أي يتباعد عن الذكرى الأشقَى .
والتعريف في { الأشقى } تعريف الجنس ، أي الأشقَونْ .
و { الأشقى } : هو الشديد الشقوة ، والشقوة والشقاء في لسان الشرع الحالة الناشئة في الآخرة عن الكفر من حالة الإهانة والتعذيب ، وعندنا أن من علِمَ إلى موته مؤمناً فليس بشقي .
فالأشقى : هو الكافر لأنه أشدّ الناس شقاء في الآخرة لخلوده في النار .
وتعريف { الأشقى } تعريف الجنس ، فيشمل جميع المشركين . ومن المفسرين من حمله على العهد فقال : أريد به الوليد بن المغيرة ، أو عتبة بن ربيعة .
ووصْفُ { الأشقى } ب { الذي يصلى النار الكبرى } لأن إطلاق { الأشقى } في هذه الآية في صدر مدة البعثة المحمدية فكان فيه من الإِبهام ما يحتاج إلى البيان فأتبع بوصف يبيّنه في الجملة ما نزل من القرآن من قبل هذه الآية .
ومقابلة { من يخشى } ب { الأشقى } تؤذن بأن { الأشقى } من شأنه أن لا يخشى فهو سادر في غروره منغمس في لهوه فلا يتطلب لنفسه تخلصاً من شقائه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
سيذّكّر يا محمد إذا ذَكّرت الذين أمرتك بتذكيرهم من يخشى الله ، ويخاف عقابه. "ويَتَجَنّبُها" يقول : ويتجنّب الذكرى "الأشْقَى" يعني : أشقى الفريقين "الّذِي يَصْلَى النّارَ الكُبْرَى" وهم الذين لم تنفعهم الذكرى .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: "وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى" ... أضاف التجنب هاهنا إلى الأشقى، وهو الشقي، وفيما ذكر الأتقى أضاف التجنب إلى نفسه، بقوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)؛ فيكون في هذا دلالة الإذن بإضافة الخيرات إلى اللَّه - تعالى - وفي الأول دلالة منع إضافة الشرور إليه؛ وهذا لأن إضافة الخيرات إلى اللَّه تعالى تخرج مخرج الشكر له، وهو حقيق بأن تشكر نعمه، وليس في إضافة الشرور إلى آخر شكر له؛ فلم يصح أن تضاف إليه، واللَّه أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فهذا الشقي تجنب الذكرى بأن صار بمعزل عنها بما ينافي كونها ، فالشقوة حالة تؤدي إلى شدة العقاب ونقيضها السعادة ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الكافر ؛ لأنه أشقى من الفاسق . أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ...
فيكون الأشقى هو المعاند الذي لا يستمع إلى الدعوة ولا ينتفع بها ...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
أي المبالغ في الشقاوة ، لأن الكافر بالرسول صلى الله عليه وسلم هو أشقى الكفار ، كما أن المؤمن به وبما جاء به هو أفضل ممن آمن برسول قبله . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ ويتجنبها } أي يكلف نفسه وفطرته الأولى المستقيمة تجنب الذكرى التي نشاء تذكيره بها من أشرف الخلائق وأعظمهم وصلة بالخالق . ولما كان هذا الذي يعالج نفسه على العوج شديد العتو قال : { الأشقى } أي الذي له هذا الوصف على الإطلاق لأنه خالف أشرف الرسل فهو لا يخشى فكان أشقى الناس ،...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتجنب : التباعد ، وأصله تفعل لتكلف الكيْنونة بجانبٍ من شيء .
والجانب : المكان الذي هو طَرَف لغيره ، وتكلفُ الكينونة به كناية عن طلب البعد أي بمكان بعيد منه ، أي يتباعد عن الذكرى الأشقَى .
والتعريف في { الأشقى } تعريف الجنس ، أي الأشقَون .
و { الأشقى } : هو الشديد الشقوة ، والشقوة والشقاء في لسان الشرع الحالة الناشئة في الآخرة عن الكفر من حالة الإهانة والتعذيب ، وعندنا أن من علِمَ إلى موته مؤمناً فليس بشقي .
فالأشقى : هو الكافر لأنه أشدّ الناس شقاء في الآخرة لخلوده في النار .
وتعريف { الأشقى } تعريف الجنس ، فيشمل جميع المشركين . ومن المفسرين من حمله على العهد فقال : أريد به الوليد بن المغيرة ، أو عتبة بن ربيعة .
ووصْفُ { الأشقى } ب { الذي يصلى النار الكبرى } لأن إطلاق { الأشقى } في هذه الآية في صدر مدة البعثة المحمدية فكان فيه من الإِبهام ما يحتاج إلى البيان فأتبع بوصف يبيّنه في الجملة ما نزل من القرآن من قبل هذه الآية .
ومقابلة { من يخشى } ب { الأشقى } تؤذن بأن { الأشقى } من شأنه أن لا يخشى فهو سادر في غروره منغمس في لهوه فلا يتطلب لنفسه تخلصاً من شقائه .