وقوله - تعالى - : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا . والآخرة خَيْرٌ وأبقى } الإضراب فيه عن كلام مقدر يفهم من السياق .
والمعنى : لقد بينت لكم ما يؤدى إلى فلاحكم وفوزكم . . يا بنى آدم - كثير منكم لم يستجيب لما بينته له ، لأن الدنيا ومتعها زائلة ، أما الآخرة فخيرها باق لا يزول .
والخطاب لجميع الناس ، ويدخل فيه الكافرون دخولا أوليا ، وعليه يكون المراد بإيثار الحياة الدنيا بالنسبة للمؤمنين ، ما لا يخلو منه غالب الناس ، من اشتغالهم فى كثير من الأحيان بمنافع الدنيا ، وتقصيرهم فيما يتعلق بآخرتهم .
ويرى كثير من العلماء : أن الخطاب للكافرين على سبيل الالتفات ، ويؤيد أن الخطاب للكافرين قراءة أبى عمرو بالياء على طريقة الغيبة .
أى : بل إن الكافرين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، مع أن الآخرة خير وأبقى
وفي ظل هذا المشهد . مشهد النار الكبرى للأشقى . والنجاة والفلاح لمن تزكى ، يعود بالمخاطبين إلى علة شقائهم ، ومنشأ غفلتهم ، وما يصرفهم عن التذكر والتطهر والنجاة والفلاح ، ويذهب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى :
( بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى ) . .
إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى . فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى ؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها . وهم يريدون الدنيا ، ويؤثرونها . .
وتسميتها( الدنيا )لا تجيء مصادفة . فهي الواطية الهابطة - إلى جانب أنها الدانية : العاجلة :
وقوله : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيْا يقول للناس : بل تؤثرون أيها الناس زينة الحياة الدنيا على الاَخرة والاَخِرَةُ خَيْرٌ لَكُمْ وأبْقَى يقول : وزينة الاَخرة خير لكم أيها الناس وأبقى بقاء ، لأن الحياة الدنيا فانية ، والاَخرة باقية ، لا تنفَدُ ولا تفنى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيْا فاختار الناس العاجلة إلا من عصم الله . وقوله : وَالاَخِرَةُ خَيْرٌ في الخير وأبْقَى في البقاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو حمزة ، عن عطاء ، عن عَرْفَجَة الثقفيّ ، قال : استقرأت ابن مسعود سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى ، فلما بلغ : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيْا ترك القراءة ، وأقبل على أصحابه ، وقال : آثرنا الدنيا على الاَخرة ، فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزُوِيت عنا الاَخرة ، فاخترنا هذا العاجل ، وتركنا الاَجل .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيْا فقرأ ذلك عامّة قرّاء الأمصار : بَلْ تُؤْثِرُونَ بالتاء ، إلا أبا عمرو ، فإنه قرأه بالياء ، وقال : يعني الأشقياء .
والذي لا أوثر عليه في قراءة ذلك التاء ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه . وذُكر أن ذلك في قراءة أُبيّ : بَلْ أنْتُمْ تُؤْثِرُونَ فذلك أيضا شاهد لصحة القراءة بالتاء .
ثم أخبر تعالى الناس أنهم يؤثرون { الحياة الدنيا } ، فالكفار يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة ، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم الله ، وقرأ أبو عمرو وحده{[11757]} «يؤثرون » بالياء ، وقال : يعني الأشقين ، وهي قراءة ابن مسعود والحسن وأبي رجاء والجحدري ، وقرأ الباقون والناس : «تؤثرون » بالتاء على المخاطبة ، وفي حرف أبي بن كعب «بل أنتم تؤثرون » .
قرأ الجمهور { تؤثرون } بمثناة فوقية بصيغة الخطاب ، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات ، وقرأه أبو عمرو وحدَه بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائداً إلى { الأشقى الذي يصلى النار الكبرى } [ الأعلى : 11 ، 12 ] .
وحرف { بَل } معناه الجامع هو الإضراب ، أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد { بل } ؛ فهو إذا عَطَف المفردات كان الإضراب إبطالاً للمعطوف عليه : لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم . وإذا عطفَ الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين ، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى : { أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق } [ المؤمنون : 70 ] فهو انصراف في الحُكم ، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى : { ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا } [ المؤمنون : 62 ، 63 ] . فتكون { بل } بمنزلة قولهم « دع هذا » فهذا انصراف قولي . ويعرف أحد الإضرابين بالقرائن والسياق .
و { بل } هنا عاطفة جملة عطفاً صُورياً فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها ، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشْقَون بأنَّ السبب إيثارهم الحياة الدنيا ، وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر ، وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة .
ويجوز أن يكون الإضراب إبطالاً لما تضمنه قوله : { قد أفلح من تزكى } [ الأعلى : 14 ] من التعريض للذين شَقُوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكّون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح .
والمعنى : أنهم بُعداء عن أن يظنّ بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة الدنيا ، فالمعنى : بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة ، وهذا كما يقول الناصح شخصاً يظن أنه لا ينتصح « لقد نصحتك وما أظنك تفعل » .
ويجيء فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين .
والإِيثار : اختيار شيء من بين متعدد .
والمعنى : تؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم .
ولم يُذكر المؤثَر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه ، أي لا تتأملون فيما عدَا حياتكم هذه ولا تتأمّلون في حياة ثانية ، فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكِّروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يُعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ .
واعلم أنّ للمؤمنين حظاً من هذه الموعظة على طول الدهر ، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرِّط فيه أحدهم مما ينجيه في الآخرة إيثاراً لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تَبِعةً في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة ، فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك مَيدانٌ للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى : { وابتغ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيا" يقول للناس : بل تؤثرون أيها الناس زينة الحياة الدنيا على الآخرة.
"والآخِرَةُ خَيْرٌ" لَكُم "وأبْقَى" يقول : وزينة الآخرة خير لكم أيها الناس وأبقى بقاء ، لأن الحياة الدنيا فانية ، والآخرة باقية ، لا تنفَدُ ولا تفنى ... عن عَرْفَجَة الثقفيّ ، قال : استقرأت ابن مسعود "سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الأعْلَى" ، فلما بلغ : "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيا" ترك القراءة ، وأقبل على أصحابه ، وقال : آثرنا الدنيا على الآخرة ، فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزُوِيت عنا الآخرة ، فاخترنا هذا العاجل ، وتركنا الآجل .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي يؤثرون حياتها على الحياة الآخرة ، ويكون الخطاب منصرفا إلى المنافقين والكفرة لا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان . ( الإحياء : 3/85 ) ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فالكفار يؤثرها إيثار كفر يرى أن لا آخرة ، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة نفس إلا من عصم الله ، ...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
إضرابٌ عن مقدرٍ ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيلَ إثرَ بيانِ ما يؤدِّي إلى الفلاحِ : لا تفعلونَ ذلكَ بلْ تؤثرونَ اللذاتِ العاجلةَ الفانيةَ فتسعَونَ لتحصيلِها ، والخطابُ إمَّا للكفرةِ فالمرادُ بإيثارِ الحياةِ الدُّنيا هُو الرِّضا والاطمئنانُ بهَا والإعراضُ عن الآخرةِ بالكليةِ كما في قولِه تعالى : { إنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا } [ سورة يونس ، الآية 7 ] الآيةَ ، أو للكُلِّ فالمرادُ بإيثارها ما هُو أعمُّ ممَّا ذُكرَ وما لا يخلُو عنْهُ الإنسانُ غالباً من ترجيح جانبِ الدُّنيا على الآخرة في السَّعي ، وترتيب المبادِي . والالتفاتُ على الأولِ لتشديدِ التوبيخِ وعلى الثَّانِي كذلكَ في حقِّ الكفرةِ وتشديدِ العتابِ في حقِّ المسلمينَ . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى . فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى ؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها . وهم يريدون الدنيا ، ويؤثرونها . . وتسميتها( الدنيا )لا تجيء مصادفة . فهي الواطية الهابطة - إلى جانب أنها الدانية : العاجلة : ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإِيثار : اختيار شيء من بين متعدد . والمعنى : تؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم . ولم يُذكر المؤثَر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه ، أي لا تتأملون فيما عدَا حياتكم هذه ولا تتأمّلون في حياة ثانية ، فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكِّروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يُعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ . واعلم أنّ للمؤمنين حظاً من هذه الموعظة على طول الدهر ...