وبعد هذا الحديث عن مشاهد الكون ، عادت السورة - للمرة الثالثة - إلى الحديث عن أحوال المجرمين يوم القيامة ، فقال - تعالى - : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } .
أى : كن متذكرا - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ ، حال المجرمين يوم القيامة ، يوم يناديهم الله - تعالى - على سبيل التقريع والتأنيب فيقول لهم : أين شركائى الذين كنتم فى دنياكم تزعمون أنهم شركائى فى العبادة والطاعة .
إنهم لا وجود لهم إلى فى عقولكم الجاهلة ، وأفكاركم الباطلة ، وتقاليدكم السقيمة .
قال - تعالى - : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }
الدرس الثامن : 74 - 75 خسارة المشركين يوم القيامة
ويختم هذه الجولات بمشهد سريع من مشاهد القيامة يسألهم فيه سؤال استنكار عما زعموا من شركاء . ويقفهم وجها لوجه أمام أباطيلهم المدعاة ، حيث تتذاوب وتتهاوى في موقف السؤال والحساب :
( ويوم يناديهم فيقول : أين شركائي الذين كنتم تزعمون ? ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا : هاتوا برهانكم . فعلموا أن الحق لله ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .
وتصوير يوم النداء ، وما فيه من سؤال عن الشركاء ، قد سبق في جولة ماضية . فهو يعاد هنا لتوكيده وتثبيته بمناسبة المشهد الجديد الذي يعرض هنا . مشهد نزع شهيد من كل أمة . وهو نبيها الذي يشهد بما أجابته وما استقبلت به رسالته . والنزع حركة شديدة ، والمقصود إقامته وإبرازه وإفراده من بينهم ليشهده قومه جميعا وليشهد قومه جميعا . وفي مواجهة هذا الشاهد يطلب منهم برهانهم على ما اعتقدوا وما فعلوا . وليس لديهم برهان ؛ ولا سبيل لهم يومئذ إلى المكابرة :
( فعلموا أن الحق لله ) . . الحق كله خالصا لا شبهة فيه ولا ريبة .
( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . . من شرك ومن شركاء ، فما هو بواجدهم وما هم بواجديه ! في وقت حاجتهم إليه في موقف الجدل والبرهان !
بهذا تنتهي التعقيبات على قصة موسى وفرعون . وقد طوفت بالنفوس والقلوب في تلك الآفاق والعوالم والأحداث والمشاهد وردتها من الدنيا إلى الآخرة ، ومن الآخرة إلى الدنيا . وطوقت بها في جنبات الكون وفي أغوار النفس ، وفي مصارع الغابرين ، وفي سنن الكون والحياة . متناسقة كلها مع محور السورة الأصيل . ومع القصتين الرئيسيتين في السورة : قصة موسى وفرعون . وقصة قارون . وقد مضت الأولى . فلنستعرض الثانية بعد تلك التعقيبات وهذه الجولات .
وهذا أيضا نداء [ ثان ]{[22400]} على سبيل التقريع والتوبيخ لِمَنْ عبد مع الله إلهًا آخر ، يناديهم الرب - تبارك وتعالى - على رؤوس الأشهاد فيقول : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } أي : في الدار الدنيا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوَاْ أَنّ الْحَقّ لِلّهِ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
يعني تعالى ذكره : ويوم ينادي ربك يا محمد هؤلاء المشركين فيقول لهم : أيْنَ شُرَكائيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أيها القوم في الدنيا أنهم شركائي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويوم يناديهم} يعني: يسألهم {فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره: ويوم ينادي ربك يا محمد هؤلاء المشركين فيقول لهم:"أيْنَ شُرَكائيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ" أيها القوم في الدنيا أنهم شركائي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وهذه الآيات التي يكررها، ويعيدها مرة بعد مرة كقوله: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتهم المرسلين} [القصص: 65] وقوله: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} [القصص: 74] وقوله: {ادعوا شركاءكم} [الأعراف: 195] وأمثال ذلك مما يكثر على علم منه أنهم لا يصدقونها، ولا يقلبونها، ولا يسمعون إليها، وإن كررت، وأعيدت، غير مرة، فهو، والله أعلم على وجهين: أحدهما: لزوم الحجة لما مكنوا من الاستماع والسماع، وإن كانوا لا يسمعون إليها. والثاني: يكون فيه عظة للمؤمنين من وجوه: أحدها: ليشكروا على ما عصموا من عبادة غير الله، ووفقوا عبادة المستحق إليها، ليعرفوا عظيم نعمة الله عليهم. والثاني: ليحذروا عاقبتهم في الرجوع إلى ما هم عليه أولئك الكفرة على ما حذر الرسل والأنبياء وأولي العصمة عاقبتهم في الرجوع إلى ذلك كقول إبراهيم: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} [إبراهيم: 35] وأمثاله كثير. والثالث: خوف المعاملة: لئلا يعاملوا معاملتهم في العمل كما عامل أولئك في الاعتقاد، لأن المؤمنين، وإن خالفوا أولئك الكفرة في الاعتقاد في إشراك غيره في العبادة فربما يوافقونهم في العمل، فكررت هذه الأنباء والآيات عليهم، وأعيدت مرة [بعد مرة] وإن كان أولئك لا يستمعون إليها للوجوه التي ذكرها. والرابع: كررت، وأعيدت، لئلا يقولوا: إنها لو أعيدت، وكررت، لقبلناها، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما كرر النداء ب "أين شركائي الذين كنتم تزعمون "لأن النداء الأول للتقرير بالإقرار على اليقين بالغي الذي كانوا عليه ودعوا إليه.
والثاني للتعجيز عن إقامة البرهان لما طولبوا به بحضرة الأشهاد مع تقريع...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كلا... لا حُجَّة لهم، ولا جوابَ يعذرهم، ولا شفيعَ يرحمهم، ولا ناصِرَ يُعِينهم. اشتهرت ضلالتهُم، واتضحت للكافة جهالتهُم؛ فدامَ عذابُ الأبد، وحاقَ بهم وبالُ السَّرمَد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء: إيذان بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
التقدير «واذكر يوم يناديهم» وكرر هذا المعنى إبلاغاً وتحذيراً، وهذا النداء هو عن ظهور كل ما وعد الرحمن على ألسنة المرسلين؛ من وجوب الرحمة لقوم، والعذاب لآخرين، من خضوع كل جبار وذلة الكل لعزة رب العالمين. فيتوجه حينئذ توبيخ الكفار {فيقول} الله تعالى لهم: {أين شركائي} على معنى التقريع.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أعاد هذا الضمير لاختلاف الحالين، ينادون مرة فيقال لهم:"أين شركائي الذين كنتم تزعمون" فيدعون الأصنام فلا يستجيبون، فتظهر حيرتهم، ثم ينادون مرة أخرى فيسكتون وهو توبيخ وزيادة خزي، والمناداة هنا ليست من الله؟ لأن الله تعالى لا يكلم الكفار لقوله تعالى "ولا يكلمهم الله يوم القيامة "[البقرة: 174] لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكتهم، ويقيم الحجة عليهم في مقام الحساب وقيل: يحتمل أن يكون من الله، وقوله: "ولا يكلمهم الله" حين يقال لهم: "اخسؤوا فيها ولا تكلمون" [المؤمنون: 108] وقال: "شركائي" لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
تقريع بعد تقريع... الأول لتقرير فساد رأيهم، والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تشه وهوى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم هذه الجولات بمشهد سريع من مشاهد القيامة يسألهم فيه سؤال استنكار عما زعموا من شركاء. ويقفهم وجها لوجه أمام أباطيلهم المدعاة، حيث تتذاوب وتتهاوى في موقف السؤال والحساب:
(ويوم يناديهم فيقول: أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟ ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا: هاتوا برهانكم. فعلموا أن الحق لله، وضل عنهم ما كانوا يفترون)..
وتصوير يوم النداء، وما فيه من سؤال عن الشركاء، قد سبق في جولة ماضية. فهو يعاد هنا لتوكيده وتثبيته بمناسبة المشهد الجديد الذي يعرض هنا. مشهد نزع شهيد من كل أمة. وهو نبيها الذي يشهد بما أجابته وما استقبلت به رسالته. والنزع حركة شديدة، والمقصود إقامته وإبرازه وإفراده من بينهم ليشهده قومه جميعا وليشهد قومه جميعا. وفي مواجهة هذا الشاهد يطلب منهم برهانهم على ما اعتقدوا وما فعلوا. وليس لديهم برهان؛ ولا سبيل لهم يومئذ إلى المكابرة:
(فعلموا أن الحق لله).. الحق كله خالصا لا شبهة فيه ولا ريبة.
(وضل عنهم ما كانوا يفترون).. من شرك ومن شركاء، فما هو بواجدهم وما هم بواجديه! في وقت حاجتهم إليه في موقف الجدل والبرهان!
بهذا تنتهي التعقيبات على قصة موسى وفرعون. وقد طوفت بالنفوس والقلوب في تلك الآفاق والعوالم والأحداث والمشاهد وردتها من الدنيا إلى الآخرة، ومن الآخرة إلى الدنيا. وطوقت بها في جنبات الكون وفي أغوار النفس، وفي مصارع الغابرين، وفي سنن الكون والحياة. متناسقة كلها مع محور السورة الأصيل. ومع القصتين الرئيسيتين في السورة: قصة موسى وفرعون. وقصة قارون. وقد مضت الأولى. فلنستعرض الثانية بعد تلك التعقيبات وهذه الجولات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فظاهر الآية أن ذلك النداء يكرر يوم القيامة. ويحتمل أنه إنما كررت حكايته وأنه نداء واحد يقع عقبه جواب الذين حق عليهم القول من مشركي العرب ويقع نزع شهيد من كل أمة عليهم فهو شامل لمشركي العرب وغيرهم من الأمم.
تقدمت المناداة قبل ذلك مرتين ومع ذلك لا يوجد تكرار لهذا المعنى؛ لأن كل نداء منها له مقصوده الخاص، فالنداء في الأولى خاص بمن أشركوهم مع الله وما قالوه أمام الله تعالى: {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا.. 63} [القصص] أما الثانية، فالنداء فيها للمشركين {ماذا أجبتم المرسلين65} [القصص] أما هنا، فيهتم النداء بمسألة الشهادة عليهم. إذن: فكلمة (أين) و (شركائي) و (والذين كنتم تزعمون) قدر مشترك بين الآيات الثلاثة، لكن المطلوب في كل قدر غير المطلوب في القدر الآخر، فليس في الأمر تكرار، إنما توكيد في الكل.