وبمناسبة الحديث عن قصة إبراهيم مع قومه ، جاء بعد ذلك الحديث عن جانب من قصة لوط مع قومه . لوط - عليه السلام - الذى آمن بإبراهيم وهاجر معه إلى بلاد الشام . . .
قال - تعالى - : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ . . . . لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
وقوله - سبحانه - { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } منصوب بالعطف على إبراهيم فى قوله - تعالى - : { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ . . } أو بفعل مضمر .
أى : واذكر - أيها العاقل لتعبير وتتعظ - نبينا لوطا - عليه السلام - وقت أن قال لقومه على سبيل الزجر والتوبيخ والإِنكار لما هم عليه من فعل قبيح :
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين } أى : إنكم لتفعلون الفعلة البالغة أقصى دركات القبح والفحش ، والتى ما فعلها أحد قبلكم ، بل أنتم أول من ابتدعها ، وهى إتيان الكذور دون الإِناث .
قال عمر بن دينار : ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط .
وقال الوليد بن عبد الملك : لولا أن الله - تعالى - قد قص علينا خبر قوم لوط ، ما ظننت أن ذكرا يعلوا ذكرا .
وجاء قوله - عليه السلام - مؤكدا بجملة من المؤكدات ، لتسجيل هذه الفاحشة عليهم بأقوى أسلوب ، وبأنهم لم يسبقهم أحد إلى ارتكابها .
ثم تأتي قصة لوط عقب قصة إبراهيم ، بعد ما هاجر إلى ربه مع إبراهيم ، فنزلا بوادي الأردن ؛ ثم عاش لوط وحده في إحدى القبائل على ضفاف البحر الميت أو بحيرة لوط كما سميت فيما بعد . وكانت تسكن مدينة سدوم . وصار لوط منهم بالصهر والمعيشة .
ثم حدث أن فشا في القوم شذوذ عجيب ، يذكر القرآن أنه يقع لأول مرة في تاريخ البشرية . ذلك هو الميل الجنسي المنحرف إلى الذكور بدلا من الإناث اللاتي خلقهن الله للرجال ، لتتكون من الجنسين وحدات طبيعية منتجة تكفل امتداد الحياة بالنسل وفق الفطرة المطردة في جميع الأحياء . إذ خلقها الله أزواجا : ذكرانا وإناثا . فلم يقع الشذوذ والانحراف إلى الجنس المماثل قبل قوم لوط هؤلاء :
( ولوطا إذ قال لقومه : إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين . أئنكم لتأتون الرجال ، وتقطعون السبيل ، وتأتون في ناديكم المنكر . فما كان جواب قومه إلا أن قالوا : ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين . قال : رب انصرني على القوم المفسدين ) .
ومن خطاب لوط لقومه يظهر أن الفساد قد استشرى فيهم بكل ألوانه . فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين :
يقول تعالى مخبرا عن نبيه لوط عليه السلام ، إنه أنكر على قومه سُوء صنيعهم ، وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال ، في إتيانهم الذكران من العالمين ، ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم . وكانوا مع هذا يكفرون بالله ، ويكذّبون رسوله ويخالفونه ويقطعون السبيل ، أي : يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم ، { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } أي : يفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها ، لا ينكر بعضهم على بعض شيئًا من ذلك ، فمن قائل : كانوا يأتون بعضهم بعضا في الملأ قاله مجاهد . ومن قائل : كانوا يتضارطون ويتضاحكون ؛ قالته عائشة ، رضي الله عنها ، والقاسم . ومن قائل : كانوا يناطحون بين الكباش ، ويناقرون بين الديوك ، وكل ذلك كان يصدر عنهم ، وكانوا شرًا من ذلك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حماد بن أسامة ، أخبرني حاتم بن أبي صغيرة ، حدثنا سِمَاك بن حرب ، عن أبي صالح - مولى أم هانئ - عن أم هانئ{[22568]} قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن قوله عز وجل : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } ، قال : " يحذفون أهل الطريق ، ويسخرون منهم ، وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه " .
ورواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة عن أبي يونس القُشَيري ، حاتم بن أبي صَغِيرة{[22569]} به{[22570]} . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة{[22571]} عن سِمَاك .
وقال{[22572]} ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا محمد بن كثير ، عن عمرو بن قيس ، عن الحكم{[22573]} ، عن مجاهد : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } قال : الصفير ، ولعب الحمام{[22574]} والجُلاهق ، والسؤال في المجلس ، وحل أزرار القباء .
وقوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ، وهذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم ؛ ولهذا استنصر عليهم نبي الله فقال : { رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } {[22575]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر لوطا إذ قال لقومه : إنكم لتأتون الذكران ما سَبَقَكُمْ بِها يعني بالفاحشة التي كانوا يأتونها ، وهي إتيان الذكران مِنْ أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار ، في قوله إنّكُم لَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ قال : ما نَزَا ذَكَرٌ على ذَكَر حتى كان قوم لوط .
{ ولوطا } عطف على إبراهيم أو على ما عطف عليه . { إذ قال لقومه أئنكم لتأتون الفاحشة } الفعلة البالغة في القبح ، وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص بهمزة مكسورة على الخبر والباقون على الاستفهام وأجمعوا على الاستفهام في الثاني . { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } استئناف مقرر لفاحشتها من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع وتحاشت عنه النفوس حتى أقدموا عليه لخبث طينتهم .
وقوله تعالى { ولوطاً } نصب بفعل مضمر تقديره واذكر لوطاً{[9242]} ، و { الفاحشة } إتيان الرجال في الأدبار وهي معصية ابتدعها قوم لوط .