ثم وجه إليهم نداء ثالثا لعلهم يفيئون إلى رشدهم فقالك { وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }
أى : افترضوا يا قوم أنى طردت هؤلاء المؤمنين الفقراء من مجلسى ، فمن ذا الذى يحمينى ويجبرنى من عذاب الله ، لأنه - سبحانه - ميزانه فى تقييم الناس ليس كميزانكم ، إن أكرم الناس عنده هو أتقاكم وليس أغناهم ، وهؤلاء المؤمنون هم أكرم عنده - سبحانه - منكم ، فكيف أطردهم ؟
والاستفهام فى قوله : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } لتوبيخهم وزجرهم . والجملة معطوفة على مقدر .
أى : أتصرون على جهلكم ؛ فلا تتذكرون أن لهم ربا ينصرهم إن طردتهم ؟ إنكم إن بقيتم على هذا الإِصرار سيكون أمركم فرطا ، وستتعرضون للعذاب الأليم الذى يهلككم .
( ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم . أفلا تذكرون ؟ ) . .
فهناك الله . رب الفقراء والأغنياء . رب الضعفاء والأقوياء . هناك الله يقوم الناس بقيم أخرى . ويزنهم بميزان واحد . هو الإيمان . فهؤلاء المؤمنون في حماية الله ورعايته .
( ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ؟ ) . .
من يعصمني من الله إن أنا أخللت بموازينه ، وبغيت على المؤمنين من عباده - وهم أكرم عليه - وأقررت القيم الأرضية الزائفة التي أرسلني الله لأعدلها لا لأتبعها ؟
إعادة { ويا قوم } مثل إعادته في الآية قبلها .
والاستفهام إنكاري . والنصر : إعانة المقاوم لضدّ أو عدوّ ، وضمن معنى الإنجاء فعدّي ب ( مِن ) أي مَن يخلصني ، أي ينجيني من الله ، أي من عقابه ، لأن طردهم إهانة تؤذيهم بلا موجب معتبر عند الله ، والله لا يحب إهانة أوليائه .
وفرع على ذلك إنكاراً على قومه في إهمالهم التذكر ، أي التأمل في الدلائل ومدلولاتها ، والأسباب ومسبّباتها .
وقرأ الجمهور { تذّكّرون } بتشديد الذال .
وأصل { تذّكرون } ، تتذكرون فأبدلت التاء ذالاً وأدغمت في الذّال . وقرأه حفص « تذكرون » بتخفيف الذّال وبحذف إحدى التاءين . والتذكر تقدم عند قوله : { إن الذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا } في آخر سورة الأعراف ( 201 . )
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويا قوم من ينصرني}: يمنعني {من الله إن طردتهم}، يعني إن لم أقبل منهم الإيمان، أي من السفلة، {أفلا} يعني أفهلا {تذكرون} أنه لا مانع لأحد من الله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول:"وَيَا قَوْم مَنْ يَنْصُرِني" فيمنعني "مِنَ اللّهِ "إن هو عاقبني على طردي المؤمنين الموحدين الله "إن طردتهم".
"أفَلا تَذَكّرُونَ" يقول: أفلا تتفكرون فيما تقولون، فتعلمون خطأه فتنتهوا عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ) أي من يمنعني من عذاب الله إن أنا طردتهم على ما تدعونني إليه، أو من يمنعني من عذاب الله إن لم أقبل منهم الإيمان. (أفلا تذكرون) أنه لا يسمح لي بما تدعونني إليه من طرد هؤلاء أو رد إيمانهم، أو (أفلا تذكرون) فتؤمنوا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" أفلا تذكرون "معناه أفلا تتفكرون، فتعلمون أن الأمر على ما قلته. وفرق الطبري بين التذكر والتفكر بأن قال: التذكر طلب معنى قد كان حاضرا للنفس، و (التفكر) طلب معرفة الشيء بالقلب وان لم يكن حاضرا للنفس...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ طَرَدَ مَنْ قَرَّبَه الله وأدناه استوجب الخِزْيَ في دنياه، والصَّغَارَ في عقباه...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(أفلا تذكرون) أي: أفلا تتعظون؟.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يا قوم من ينصرني من الله...}؛ هو استفهام بمعنى تقرير وتوقيف، أي لا ناصر يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد عن الخير الذي قبلوه، ثم وقفهم بقوله: {أفلا تذكرون} وعرض عليهم النظر المؤدي إلى صحة هذا الاحتجاج...
المعنى: أن العقل والشرع تطابقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر التقي، ومن إهانة الفاجر الكافر، فلو قلبت القصة وعكست القضية وقربت الكافر الفاجر على سبيل التعظيم، وطردت المؤمن التقي على سبيل الإهانة كنت على ضد أمر الله تعالى، وعلى عكس حكمه وكنت في هذا الحكم على ضد ما أمر الله تعالى من إيصال الثواب إلى المحقين، والعقاب إلى المبطلين وحينئذ أصير مستوجبا للعقاب العظيم فمن ذا الذي ينصرني من الله تعالى ومن الذي يخلصني من عذاب الله "أفلا تذكرون "فتعلمون أن ذلك لا يصح...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم عطف إلى صريح الاستعطاف في سياق محذر من سطوات الله فقال: {و يا قوم} أي الذين هم أعز الناس عليّ {من ينصرني من الله} أي الذي له جميع العظمة {إن طردتهم} ولو لم يشكوني إليه لاطلاعه على ما دق وجل: ولما تم الجواب عن ازدرائهم، سبب عنه الإنكار لعدم تذكرهم ما قاله لهم بما يجدونه في أنفسهم فقال: {أفلا تذكرون} أي ولو أدنى تذكر -بما يشير إليه الإدغام- فتعلموا أن من طرد صديقاً لكم عاديتموه وقصدتموه بالأذى، فترجعوا عما طرأ لكم من جهل إلى عادتكم مِنَ الحلم الباعث على التأمل الموقف على الحق؛ والطرد: إبعاد الشيء على جهة الهوان...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ويا قوم مَن ينصرني مِنَ الله} بدفْع حلولِ سخطِه عني {إِن طَرَدتُّهُمْ} فإن ذلك أمرٌ لا مردَّ له لكون الطرد ظلماً موجباً لحلول السّخط قطعاً، وإنما لم يُصرَّح به إشعاراً بأنه غنيٌّ عن البيان لاسيما غِبَّ ما قُدّم ما يلوحُ به من أحوالهم فكأنه قيل: مَنْ يدفعُ عني غضبَ الله تعالى إن طردتُهم وهم بتلك المثابةِ من الكرامة والزُلفى كما ينبئ عنه قوله تعالى: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أتستمرّون على ما أنتم عليه من الجهل المذكورِ فلا تتذكرون ما ذُكر من حالهم حتى تعرِفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال بعضهم: ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن، وتحريم الاستخفاف به، وإن كان فقيرا عادما للجاه، متعلقا بالحرف الوضيعة، لأنه تعالى حكى كلام نوح وتجهيله للرؤساء، لما طلبوا طرد من عدوه من الأراذل. وهي نظير قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهناك الله. رب الفقراء والأغنياء. رب الضعفاء والأقوياء. هناك الله يقوم الناس بقيم أخرى. ويزنهم بميزان واحد. هو الإيمان. فهؤلاء المؤمنون في حماية الله ورعايته. (ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم؟).. من يعصمني من الله إن أنا أخللت بموازينه، وبغيت على المؤمنين من عباده -وهم أكرم عليه- وأقررت القيم الأرضية الزائفة التي أرسلني الله لأعدلها لا لأتبعها؟ (أفلا تذكرون؟).. وقد أنساكم ما أنتم فيه ميزان الفطرة السليمة القويمة؟...
هنا يوضح نوح عليه السلام أنه لا يقدر على مواجهة الله إن طرد هؤلاء الضعاف؛ لأن أحدا لن ينصر نوحا على الله- عز وجل- لحظة الحساب، فهناك يوم لا ملك فيه لأحد إلا الله، ولا أحد يشفع إلا بإذنه سبحانه، ولا أحد بقادر على أن ينصر أحدا على الله تعالى؛ لأنه القاهر فوق كل خلقه. والنصر- كما نعلم- يكون بالغلبة، أما الشفاعة فهي بالخضوع، والحق سبحانه لا يأذن لأحد أن يشفع في طرد مؤمن من حظيرة الإيمان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والفرق بين «التفكر» و«التذكّر» هو أنّ التفكر في حقيقته إِنّما يكون لمعرفة شيء لم تكن لنا فيه خبرة من قبل، وأمّا التذكر فيقال في مورد يكون معروفاً للإنسان قبل ذلك، كما في المعارف الفطريّة. والمسائل التي كانت بين نوح (عليه السلام) وقومه هي أيضاً من هذا القبيل، مسائل يعرفها الإِنسان ويدركها بفطرته وتدبّره، ولكن تعصب قومه وغرورهم وغفلتهم وأنانيتهم ألقت عليها حجاباً وغشاءً فكأنّهم عموا عنها...