{ وَخَلَقَ } - سبحانه - { الجآن } أى : جنس الجن { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } أى : من لهب خالص لا دخان فيه ، أو مما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر وغير الأحمر ، إذ المارج ، هو المختلط ، وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول مثل دافع ، أى : خلق جنس الجان من خليط من لهب النار . ومن فى قوله { مِّن نَّارٍ } للبيان .
قال ابن كثير : يذكر الله - تعالى - خلقه الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلقه الجان من مارج من نار ، وهو طرف لهبها قاله الضحاك ، وعن ابن عباس : من مارج من نار ، أى : من لهب النار .
وروى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " .
والمقصود بالآيتين تذكير بنى آدم بفضلهم على غيرهم ، حيث بين - سبحانه - لهم مبدأ خلقهم ، وأنهم قد خلقوا من عنصر غير الذى خلق منه الجن ، وأن الله - تعالى - قد أمر إبليس المخلقو من النار ، بالسجود لأبيهم آدم المخلوق من الطين ، فعليهم أن يشكروا الله - تعالى - على هذه النعمة ، وأن يحذروا وسوسة إبليس وجنوده .
وبعد أن أمر بشكر هذه النعم ، أتبع ذلك ببيان مظهر آخر من مظاهر قدرته ، فقال : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
وقوله : وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ يقول تعالى ذكره : وخلق الجانّ من مارج من نار ، وهو ما اختلط بعضه ببعض ، من بين أحمر وأصفر وأخضر ، من قولهم : مَرِج أمر القوم : إذا اختلط ، ومن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو : «كَيْفَ بِكَ إذَا كُنْتَ فِي حُثالَةٍ مِنَ النّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأماناتُهُمْ » وَذلكَ هُوَ لَهَبُ النّارِ وَلِسانُهُ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الله بن يوسف الجبيريّ أبو حفص ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قال : من أوسطها وأحسنها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ يقول : خلقه من لهب النار من أحسن النار .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ يقول : خالص النار .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : خلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة ، في قوله : مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قال : من أحسن النار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قال : اللهب الأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت .
وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله ، إلاّ أنه قال : والأحمر .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قال : هو اللّهب المنقطع الأحمر .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الضحاك ، في قوله : وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارجٍ مِنْ نارٍ قال : أحسن النار .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قال : من لهب النار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ : أي من لهب النار .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، في قوله : مِنْ مارِجٍ مِنْ نار قال : من لهب النار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قال : المارج : اللهب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، قال : حدثنا أبو العوّام ، عن قتادة وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ قال : من لهب من نار .
و : { الجان } اسم جنس ، كالجنة . و : «المارج » اللهب المضطرب من النار . قال ابن عباس : وهو أحسن النار المختلط من ألوان شتى . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر : «كيف بك إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم »{[10815]} .
و { الجانُّ } : الجن والمراد به إبليس وما خرج عنه من الشياطين ، وقد حكى الله عنه قوله : { خلقتني من نار وخلقته من طين } [ ص : 76 ] .
والمارج : هو المختلط وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول مثل دافق ، وعيشة راضية ، أي خلق الجان من خليط من النار ، أي مختلط بعناصر أخرى إلا أن الناس أغلَب عليه كما كان التراب أغلب على تكوين الإنسان مع ما فيه من عنصر النار وهو الحرارة الغريزية والمقصود هنا هو خلق الإنسان بقرينة تذييله بقوله : { فبأي ألاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 16 ] وإنما قُرن بخلق الجان إظهاراً لكمال النعمة في خلق الإنسان من مادة لَينة قابلاً للتهذيب والكمال وصدور الرفق بالموجودات التي معه على وجه الأرض .
وهو أيضاً تذكير وموعظة بمظهر من مظاهر قدرة الله وحكمته في خلق نوع الإِنسان وجنس الجان .
وفيه إيماء إلى ما سبق في القرآن النازِل قبل هذه السورة من تفضيل الإنسان على الجان إذ أمر الله الجانّ بالسجود للإِنسان ، وما ينطوي في ذلك من وفرة مصالح الإِنسان على مصالح الجان ، ومِن تأهله لعمران العالم لكونه مخلوقاً من طينته إذ الفضيلة تحصل من مجموع أوصاف لا من خصوصيات مفردة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وخلق الجان} يعني إبليس {من مارج من نار} يعني من لهب النار صاف ليس له دخان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ "يقول تعالى ذكره: وخلق الجانّ من مارج من نار، وهو ما اختلط بعضه ببعض، من بين أحمر وأصفر وأخضر، من قولهم: مَرِج أمر القوم: إذا اختلط...
عن ابن عباس، في قوله: "مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ" قال: من أوسطها وأحسنها..
عن ابن عباس، قوله: مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ يقول: خالص النار...
عن مجاهد "وَخَلَقَ الجانّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ" قال: هو اللّهب المنقطع الأحمر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخبر عن قدرته: أن من قدر على خلق الإنسان من ذلك التراب وإخراج جميع ما في الدنيا من الناس من نفس واحدة لا يحتمل أن يعجزه شيء...
وكذلك ما ذكر من خلق ألوان النار وإخراج ما أخرج منه من النسل حتى أخذ الدنيا بأسرها، لا يعجزه شيء، ولو اجتمع حكماء البشر والجن ما أدركوا المعنى الذي به أنشأ الإنسان منه، وأخرج هذا الخلق منه. وفي ذلك وجهان من الحكمة؛
أحدهما: ما ذكرنا من القدرة على البعث.
والثاني: أن كل ما ذكر من النقل والتغيير من حال إلى حال وإخراج ما أخرج منه لا يحتمل أن يفعل ذلك عبثا باطلا. ولو لم يكن بعث لكان إنشاء هذا الخلق عبثا باطلا، ولا قوة إلا بالله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: فما معنى قوله: {مِّن نَّارٍ}؟ قلت: هو بيان لمارج، كأنه قيل: من صاف من نار. أو مختلط من نار أو أراد من نار مخصوصة، كقوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} [الليل: 14].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و: «المارج» اللهب المضطرب من النار. قال ابن عباس: وهو أحسن النار المختلط من ألوان شتى.
وأما المعنى) فلأنه تعالى كما قال: {خلق الإنسان من صلصال} أي من طين حر، كذلك بين أن خلق الجان من نار خالصة.
فإن قيل: فكيف يصح قوله: {مارج} بمعنى مختلط مع أنه خالص؟
نقول: النار إذا قويت التهبت، ودخل بعضها في بعض كالشيء الممتزج امتزاجا جيدا لا تميز فيه بين الأجزاء المختلطة.
فإن قيل: المقصود تعديد النعم على الإنسان، فما وجه بيان خلق الجان؟
(أحدها) ما بينا أن قوله: {ربكما} خطاب مع الإنس والجن يعدد عليهما النعم بل على الإنسان وحده.
(ثانيها) أنه بيان فضل الله تعالى على الإنسان، حيث بين أنه خلق من أصل كثيف كدر، وخلق الجان من أصل لطيف، وجعل الإنسان أفضل من الجان فإنه إذا نظر إلى أصله، علم أنه ما نال الشرف إلا بفضل الله تعالى فكيف يكذب بآلاء الله.
(ثالثها) أن الآية مذكورة لبيان القدرة لا لبيان النعمة، وكأنه تعالى لما بين النعم الثمانية التي ذكرها في أول السورة، فكأنه ذكر الثمانية لبيان خروجها عن العدد الكثير الذي هو سبعة ودخولها في الزيادة التي يدل عليها الثمانية كما بينا وقلنا إن العرب عند الثامن تذكر الواو إشارة إلى أن الثامن من جنس آخر، فبعد تمام السبعة الأول شرع في بيان قدرته الكاملة، وقال: هو الذي خلق الإنسان من تراب والجان من نار: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الجان الذي شمله أيضاً اسم الأنام مخلوقاً من العناصر الأربعة، وأغلبها في جبلته النار، قال تعالى: {وخلق الجانّ} أي هذا النوع المستتر عن العيون بخلق أبيهم، وهو اسم جمع للجن. ولما كان الجن يطلق على الملائكة لاستتارهم، بين أنهم لم يرادوا به هنا فقال: {من مارج}... ومرجت نارهم -أي اختلطت- ببرد الزمهرير...
ولما كان المارج عاماً في النار وغيرها، بينه بقوله: {من نار} هي أغلب من عناصر، فتعين المراد بذكر النار لأن الملائكة عليهم السلام من نور لا من نار، وليس عندهم مروج ولا اضطراب، بل هم في غاية الثبات على الطاعة فيما أمروا به، وقد عرف بهذا كل مضطرب قدره لئلا يتعدى طوره...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
فكما أن الإنسان من عناصر مختلفات، فالجان من أنواع من اللهب مختلطات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي خلق الجان من خليط من النار، أي مختلط بعناصر أخرى إلا أن النار أغلَب عليه كما كان التراب أغلب على تكوين الإنسان مع ما فيه من عنصر النار وهو الحرارة الغريزية والمقصود هنا هو خلق الإنسان بقرينة تذييله بقوله: {فبأي ألاء ربكما تكذبان} [الرحمن: 16] وإنما قُرن بخلق الجان إظهاراً لكمال النعمة في خلق الإنسان من مادة لَينة قابلاً للتهذيب والكمال وصدور الرفق بالموجودات التي معه على وجه الأرض. وفيه إيماء إلى ما سبق في القرآن النازِل قبل هذه السورة من تفضيل الإنسان على الجان إذ أمر الله الجانّ بالسجود للإِنسان، وما ينطوي في ذلك من وفرة مصالح الإِنسان على مصالح الجان، ومِن تأهله لعمران العالم لكونه مخلوقاً من طينته إذ الفضيلة تحصل من مجموع أوصاف لا من خصوصيات مفردة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فخار» من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفخر كثيراً، ولكون الأشخاص الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة والادّعاء عن أنفسهم، فإنّ هذه الكلمة تستعمل لكلّ إناء من الطين أو «الكوز»، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة التي يولّدها. ومن الواضح أنّ هذه التعابير تبيّن حقيقة ترتبط ارتباطا وثيقاً مع الأمور التربوية للإنسان، حيث أنّ المادّة الأوّلية في خلق الإنسان هي مادّة لا قيمة لها، ومن أحقر المواد على الأرض، إلاّ أنّ الله تعالى قد خلق من تلك المادّة الحقيرة مخلوقاً ذا شأن، بل يمثّل قمّة المخلوقات على وجه الأرض، حيث أنّ القيمة الواقعيّة للإنسان هي الروح الإلهية، النفخة الربّانية فيه، والتي ذكرت في الآيات القرآنية الأخرى (كما في سورة الحجر، 29) وذلك ليعرف الإنسان قيمته الحقيقيّة في عالم الوجود ويسير في طريق التكامل على بيّنة من أمره. «مارج» في الأصل من مرج بمعنى الاختلاط والمزج ويقول البعض: إنّ معنى التحرّك موجود فيها أيضاً، وذلك من أمرجت الدابة يعني تركت الحيوان في المرتع لأنّ أحد معاني «المرج» هو المرتع. وعلى كلّ حال، فإنّ أكثر الموجودات التي نتحدّث عنها هي: الماء والتراب والهواء والنار، سواء كانت هذه الموجودات عناصر بسيطة كما كان يعتقد القدماء، أو مركّبة كما يعتقد العلماء اليوم، ولكن على كلّ حال فإنّ مبدأ خلق الإنسان هو الماء والتراب، في حين أنّ مبدأ خلق الجنّ هو الهواء والنار، وهذا الاختلاف في مبدأ خلقة هذين الموجودين مصدر اختلافات كثيرة بين هذين المخلوقين.