{ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } يدل بمنطوقه على جواز لعنهم ، وبمفهومه على نفي جواز لعن غيرهم . ولعل الفرق أنهم مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدى مؤيسون عن الرحمة رأسا بخلاف غيرهم ، والمراد بالناس المؤمنون أو العموم فإن الكافر أيضا يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه .
ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله ، فتجيء الآية عامة تامة العموم ، و «اللعنة » الإبعاد وعدم الرحمة والعطف ، وذلك مع قرينة الكفر زعيم بتخليدهم في النار ، ولعنة الملائكة قول ، و{ الناس } : بنو آدم ، ويظهر من كلام أبي علي الفارسي في بعض تعاليقه ، أن الجن يدخلون في لفظة الناس ، وأنشد على ذلك ، [ الوافر ]
فقلتُ إلى الطَّعامِ فَقَالَ مِنْهُمْ . . . أُناسٌ يَحْسُدُ الأَنَسَ الطَّعاما{[3310]}
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي يظهر ، أن لفظة { الناس } إذا جاءت مطلقة ، فإنما هي في كلام العرب بنو آدم لا غير ، فإذا جاءت مقيدة بالجن ، فذلك على طريقة الاستعارة ، إذ هي جماعة كجماعة ، وكذلك { برجال من الجن }{[3311]} وكذلك { نفر من الجن }{[3312]} ، ولفظة النفر أقرب إلى الاشتراك من رجال وناس ، وقوله تعالى : { من الجنة والناس }{[3313]} قاض بتباين الصنفين ، وقوله تعالى : { والناس أجمعين }{[3314]} إما يكون لمعنى الخصوص في المؤمنين ويلعن بضعهم بعضاً ، فيجيء من هذا في كل شخص منهم أن لعنة جميع الناس ، وإما أن يريد أن هذه اللعنة تقع في الدنيا من جميع الناس على من هذه صفته ، وكل من هذه صفته - وقد أغواه الشيطان- يلعن صاحب الصفات ولا يشعر من نفسه أنه متصف بها ، فيجيء من هذا أنهم يلعنهم جميع الناس في الدنيا حتى أنهم ليلعنون أنفسهم ، لكن على غير تعيين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و} لعنة {الملائكة والناس أجمعين} يعني والعالمين كلهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أُولَئِكَ جَزَاؤهُمْ}: هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حقّ، {جَزَاؤهُمْ}: ثوابهم من عملهم الذي عملوه، {أنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ}: أن حلّ بهم من الله الإقصاء والبعد، ومن الملائكة والناس إلا مما يسوءهم من العقاب {أجْمَعِينَ}: من جميعهم: لا بعض من سماه جلّ ثناؤه من الملائكة والناس، ولكن من جميعهم، وإنما جعل ذلك جلّ ثناؤه ثواب عملهم، لأن عملهم كان بالله كفرا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقيل: لعنة الله: عذاب الله، وقيل: لعنة الله، هي الإياس من رحمته وعفوه. واللعن، هو الطرد في اللغة، ولعنة الملائكة ما قيل في آية أخرى: قوله: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب} {قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا} الآية [غافر: 49 و 50]، وقيل: لعنة الملائكة قولهم لهم: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} [{لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون}] [الزخرف: 77 و 78]، وقيل: يدعو عليهم باللعن، وقيل: لعنة المؤمنين قوله: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} [الأعراف: 50] فذلك لعنهم عليهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إن قيل: إذا كان لعن الملائكة والناس أجمعين تابعا للعن الله، فهلا اقتصر عليه في الذكر؟ قيل: الوجه في ذلك أن لا يوهم أن لعنهم لا يجوز إلا لله عز وجل كما لا يجوز أن يعاقبهم إلا الله أو من يأمرهم بذلك...
فان قيل: لم قال:"والناس أجمعين" ومن وافق الكافر في مذهبه لا يبرأ منه؟... قيل عن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها -إن له أن يلعنه، وإنما لا يفعله لجهله بأنه يستحق اللعن...
والثاني- أن ذلك في الآخرة، لأن بعضهم يلعن بعضا...
والثالث -أن يحمل لفظ الناس على الخصوص، فيحمل على ثلاثة فصاعدا،... وإنما ذكر وعيد الكفار ههنا مع كونه مذكورا في مواضع كثيرة في القرآن، للتأكيد وتغليظا في الزجر لأنه لما جرى ذكر الكافر عقب ذلك بلعنه، ووعيده، كما إذا جرى ذكر المؤمن عقب ذلك بالرحمة ليكون أرغب له في فعل الطاعة والتمسك بالإيمان...
والمعنى أنه تعالى حكم بأن الذين كفروا بعد إيمانهم يمنعهم الله تعالى من هدايته، ثم بين أن الأمر غير مقصور عليه، بل كما لا يهديهم في الدنيا يلعنهم اللعن العظيم ويعذبهم في الآخرة، على سبيل التأبيد والخلود. واعلم أن لعنة الله، مخالفة للعنة الملائكة، لأن لعنته بالإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب واللعنة من الملائكة هي بالقول، وكذلك من الناس، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم فصح أن يكون جزاء... السؤال الأول: لم عم جميع الناس ومن يوافقه لا يلعنه؟. قلنا: فيه وجوه... والثالث: كأن الناس هم المؤمنون، والكفار ليسوا من الناس،... الرابع: وهو الأصح عندي أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر، ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا بكافر، فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافرا، فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
اللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{أولئك} إشارة إليهم في أوصافهم السابقة، فالإشارة ليست إلى أشخاصهم؛ لأنه لم يذكر أشخاصا،إنما ذكر أوصافا،فالإشارة إلى من عندهم هذه الأوصاف،وقد ذكر سبحانه في هذه الآية الكريمة الجزاء الأول لهم، وهو اللعنة المؤكدة الثابتة المجمع عليها،وهي لعنة من الله وهي أعلاها،ولعنة من الملائكة،ولعنة من الناس أجمعين،أي انها لعنة من الخالق والمخلوقين العقلاء سواء منهم من كانت طبيعته روحية ملكية، ومن وكانت طبيعته إنسانية لها صلة بأعلاق الأرض ولها صلة بالروحانية السماوية؛ ذلك بان الظلم أبغض الصفات الإنسانية عند الله والناس،فالله سبحانه قد كتب العدل على نفسه،ولذا روى انه ورد في حديث قدسي:"يا عبادي إني قد حرمت الظلم على نفسي فلا تظلموا"، والظالمون الذين سيطر الغرض والهوى على نفوسهم فلا يؤمنون بشيء، ولا يذعنون للحق إذا عارض أهواءهم الظالمة،لا يحبهم أحد،فإن من غلب عليه هواه، وأحب نفسه أبغضه الناس...
وكون اللعنة تكون من الناس أجمعين معناه أن الفطرة الإنسانية السليمة كلها تتنكر وتلعن تلك القلوب المنحرفة التي لا تخضع لحق،ولا تؤمن للبينات،بل تتجه إلى طمس المعالم التي تنير وتهدي،فالمراد المعنى الإنساني العام لا الإحصاء والجمع لآحاد بني الإنسان...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.