تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكُلُّ صَغِيرٖ وَكَبِيرٖ مُّسۡتَطَرٌ} (53)

{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } أي : من أعمالهم { مُسْتَطَرٌ } أي : مجموع عليهم ، ومسطر في صحائفهم ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك : سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير ، حدثني عوف بن الحارث - وهو ابن أخي عائشة لأمها - عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " يا عائشة ، إياك ومُحَقِّرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا " .

ورواه النسائي وابن ماجه ، من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني {[27828]} . وثقه{[27829]} أحمد ، وابن معين ، وأبو حاتم ، وغيرهم .

وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر {[27830]} ، ثم قال سعيد : فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي : ويحك يا سعيد بن مسلم ! لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره ، فأتاه آت في منامه فقال له : يا سليمان :

لا تَحْقِرنَّ مِنَ الذنوبِ صَغِيرا *** إن الصَّغير غدًا يعود{[27831]} كبيرا

إن الصغير ولو تقادم عهده *** عند الإله مُسَطَّرٌ تسطيرا

فازجر هواك عن البطالة لا تكن *** صعب القياد وشمرن{[27832]} تشميرا

إن المُحِبَّ إذا أحب إلههُ *** طار الفؤاد وأُلْهِم التفكيرا

فاسأل هدايتك الإله بِنِيَّة *** فَكَفَى بِرَبّكَ هاديا ونصيرا {[27833]}


[27828]:- (3) المسند (6/151) وسنن ابن ماجه برقم (4243).
[27829]:- (4) في أ: "الذي وثقه".
[27830]:- (5) تاريخ دمشق (7/353 "المخطوط") من طريق أبي عامر العقدي والقعنبي، كلاهما عن سعيد بن مسلم به.
[27831]:- (6) في أ: "يكون".
[27832]:- (7) في م: "وشمر".
[27833]:- (8) تاريخ دمشق (7/353 "القسم المخطوط").
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَكُلُّ صَغِيرٖ وَكَبِيرٖ مُّسۡتَطَرٌ} (53)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُلّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مّسْتَطَرٌ * إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ } .

يقول تعالى ذكره : وكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ من الأشياء مُسْتَطِرٌ يقول : مُثبَت في الكتاب مكتوب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ يقول : مكتوب ، فإذا أراد الله أن ينزل كتابا نَسَخَتْه السّفَرة . قوله : وكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ قال : مكتوب .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن عمران بن حُدَير ، عن عكرِمة ، قال : مكتوب في كلّ سطر .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مُسْتَطَرٌ قال : محفوظ مكتوب .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أي محفوظ .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : مُسْتَطَرٌ قال : مكتوب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ قال : مكتوب ، وقرأ وَما مِن دَابّةٍ فِي الأرْضِ إلاّ على اللّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها ومُسْتَوْدَعَها كُلّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ، وقرأ وَما مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أمْثالُكُمْ ما فَرّطْنا فِي الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ إنما هو مفتعل من سطرت : إذا كتبت سطرا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكُلُّ صَغِيرٖ وَكَبِيرٖ مُّسۡتَطَرٌ} (53)

هذا كالتذييل لقوله : { وكل شيء فعلوه في الزبر } [ القمر : 52 ] فكل صغير وكبير أعمّ من كل شيء فعلوه ، والمعنى : وكل شيء حقير أو عظيم مستطر ، أي مكتوب مسطور ، أي في علم الله تعالى أي كل ذلك يعلمه الله ويحاسب عليه ، فمستطر : اسم مفعول من سطر إذا كتب سطوراً قال تعالى : { وكتاب مسطور } [ الطور : 2 ] .

وهذا كقوله تعالى : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59 ] وقوله : { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } [ سبأ : 3 ] .

فالصغير : مستعار للشيء الذي لا شأن له ولا يَهتم به الناس ولا يؤاخذ عليه فاعله ، أو لا يؤاخذ عليه مؤاخذة عظيمة . والكبير : مستعار لضده ويدخل في ذلك ما له شأن من الصلاح ومَا له شأن من الفساد وما هو دون ذلك ، وذلك أفضل الأعمال الصالحة وما دونه من الأعمال الصالحة ، وكذلك كبائر الإِثم والفواحش وما دونها من اللمم والصغائر .

والمستطر : كناية عن علم الله به وذلك كناية عن الجزاء عليه مكان ذلك جامعاً للتبشير والإِنذار .