يقول تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : لولا هذا لكان أمر آخر ، ولكنه تعالى رؤوف بعباده ، رحيم بهم . فتاب على من تاب إليه من هذه [ القضية ]{[20934]} وطَهَّر من طَهَّر منهم بالحد الذي أقيم عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنّ اللّهَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولولا أن تفضّل الله عليكم أيها الناس ورحمكم ، وأن الله ذو رأفة ، ذو رحمة بخلقه ، لهلكتم فيما أفضتم فيه وعاجلتْكم من الله العقوبة . وترك ذكر الجواب لمعرفة السامع بالمراد من الكلام بعده ، وهو قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ . . . الآية .
هذه ثالث مرة كرر فيها { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } وحذف في الأول والثالث جواب ( لولا ) لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام .
وقد ذكر في المرة الأولى وصف الله بأنه تواب حكيم للمناسبة المتقدمة ، وذكر هنا بأنه رؤوف رحيم ، لأن هذا التنبيه الذي تضمنه التذييل فيه انتشال للأمة من اضطراب عظيم في أخلاقها وآدابها وانفصام عرى وحدتها فأنقذها من ذلك رأفة ورحمة لآحادها وجماعتها وحفظاً لأواصرها .
وذكر وصف الرأفة والرحمة هنا لأنه قد تقدمه إنقاذه إياهم من سوء محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا تلك المحبة التي انطوت عليها ضمائر المنافقين كان إنقاذ المؤمنين من التخلق بها رأفة بهم من العذاب ورحمة لهم بثواب المتاب .
وهذه الآية هي منتهى الآيات العشر التي نزلت في أصحاب الإفك على عائشة رضي الله عنها ، نزلت متتابعة على النبي صلى الله عليه وسلم وتلاها حين نزولها وهو في بيته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته} يعني: نعمته لعاقبكم فيها قلتم لعائشة، رضي الله عنها، ثم قال عز وجل: {وأن الله رءوف} يعني: رفيق بكم {رحيم}، بكم حين عفا عنكم، فلم يعاقبكم في أمر عائشة، رضي الله عنها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولولا أن تفضّل الله عليكم أيها الناس ورحمكم، وأن الله ذو رأفة، ذو رحمة بخلقه، لهلكتم فيما أفضتم فيه وعاجلتْكم من الله العقوبة، وترك ذكر الجواب لمعرفة السامع بالمراد من الكلام بعده، وهو قوله:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ...".
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كرَّر قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لِيُبَيِّنَ للجميع أنَّ حُسْنَ الدفعِ عنهم كان بفضله ورحمته وجميل المنح لهم، وكلٌّ يشهد حُسنَ المَنْحِ ويشكر عليه، وعزيزٌ عبدٌ يشهد حُسْنَ الدفع عنه فيحمده على ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وكرّر المنة بترك المعاجلة بالعقاب، حاذفاً جواب لولا كما حذفه ثمة. وفي هذا التكرير مع حذف الجواب مبالغة عظيمة، وكذلك في التوّاب والرؤوف والرحيم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: لولا هذا لكان أمر آخر، ولكنه تعالى رؤوف بعباده، رحيم بهم. فتاب على من تاب إليه من هذه [القضية] وطَهَّر من طَهَّر منهم بالحد الذي أقيم عليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ختم بالحكم عليهم بالجهل، وكان التقدير كما أرشد إليه ما يأتي من العطف على غير معطوف: فلولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لعجل هلاك المحبين لشيوع ذلك بعذاب الدنيا ليكون موصولاً بعذاب الآخرة، عطف عليه قوله مكرراً التذكير بالمنة بترك المعاجلة حاذفاً الجواب، منبهاً بالتكرير والحذف على قوة المبالغة وشدة التهويل: {ولولا فضل الله} أي الحائز لجميع الجلال والإكرام {عليكم ورحمته} بكم {وأن} أي ولولا أن {الله} أي الذي له القدرة التامة فسبقت رحمته غضبه {رؤوف} بكم في نصب ما يزيل جهلكم بما يحفظ من سرائركم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الحدود، الزاجرة عن الجهل، الحاملة على التقوى، التي هي ثمرة العلم، فإن الرأفة كما تقدم في الحج وغيرها تقيم المرؤوف به لأنها ألطف الرحمة وأبلغها على أقوم سنن حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو، وتارة يكون هذا الحفظ بالقوة بنصب الأدلة... {رحيم} بما يثبت لكم من الدرجات على ما منحكم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية، والجواب محذوف تقديره: لترككم في ظلمات الجهل تعمهون، فثارت بينكم الفتن حتى تفانيتم ووصلتم إلى العذاب الدائم بعد الهم اللازم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومرة أخرى يذكر المؤمنين بفضل الله عليهم ورحمته: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم).. إن الحدث لعظيم، وإن الخطأ لجسيم، وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء. ولكن فضل الله ورحمته، ورأفته ورعايته.. ذلك ما وقاهم السوء.. ومن ثم يذكرهم به المرة بعد المرة؛ وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه ثالث مرة كرر فيها {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} وحذف في الأول والثالث جواب (لولا) لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام.
وقد ذكر في المرة الأولى وصف الله بأنه تواب حكيم للمناسبة المتقدمة، وذكر هنا بأنه رؤوف رحيم، لأن هذا التنبيه الذي تضمنه التذييل فيه انتشال للأمة من اضطراب عظيم في أخلاقها وآدابها وانفصام عرى وحدتها فأنقذها من ذلك رأفة ورحمة لآحادها وجماعتها وحفظاً لأواصرها.
وذكر وصف الرأفة والرحمة هنا لأنه قد تقدمه إنقاذه إياهم من سوء محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا تلك المحبة التي انطوت عليها ضمائر المنافقين كان إنقاذ المؤمنين من التخلق بها رأفة بهم من العذاب ورحمة لهم بثواب المتاب.
وهذه الآية هي منتهى الآيات العشر التي نزلت في أصحاب الإفك على عائشة رضي الله عنها، نزلت متتابعة على النبي صلى الله عليه وسلم وتلاها حين نزولها وهو في بيته.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الرأفة: انفعال النفس بالرفق والعطف على من يخشى عليه، وهذا بالنسبة للإنسان، أما بالنسبة لله تعالى فهي صفة تليق بذاته الكريمة، وهي تقابل ما عند العبيد، ولكنها تتفق مع صفات الكمال التي يتصف بها الله تعالى، والرحمة لطف الله تعالى في الأحكام ووضعها في مواضعها سواء أكانت خفيفة أم كانت غليظة في عقاب، فالعقوبة مهما كانت شديدة من رحمة الله تعالى بعباده.
انظر كم فضل من الله تعالى تفضل به على عباده في هذه الحادثة، ففي كل مرحلة من مراحل هذه القضية يقول سبحانه: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} وهذا دليل على أن ما حدث كان للمؤمنين نعمة وخير، وإن ظنوه غير ذلك. لكن أين جواب لولا؟ الجواب يفهم من السياق وتقديره: لفضحتم ولهلكتم، وحصل لكم كذا وكذا، ولك أن تقدره كما تشاء. وما منع عنكم هذا كله إلا فضل الله ورحمته. وفي موضع آخر يوضح الحق سبحانه منزلة هذا الفضل: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (58)} [يونس]: فالحق- سبحانه وتعالى- شرع منهجا ويحب من يعمل به، لكن فرحة العبد لا تتم بمجرد العمل، وإنما بفضل الله ورحمته في تقبل هذا العمل. إذن: ففضل الله هو القاسم المشترك في كل تقصير من الخلق في منهج الخالق عز وجل.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} في ما أولاكم من ألطافه، وفي ما أنزله عليكم من شرائع أراد بها صلاح حياتكم، وفي ما فتحه لكم من أبواب التوبة التي هي منطلق العفو والمغفرة {وَأَنَّ اللَّهَ رَؤوفٌ رَّحِيمٌ}، لما استطعتم أن تصلوا إلى شاطئ النجاة..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وكررت الآية الأخيرةُ ممّا نَحنُ بصددِه مِن الآيات التي تناولت حديث الإفك ومكافحة إشاعة الفحشاء، وقَذْف المؤمنين المتطهرين هذه الحقيقة لتؤكّد القول (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله رؤوف رحيم).
بما أن الإنسان مخلوق اجتماعي، فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه لَهُ حُرْمة يجب أن لا تقِلَّ عَنْ حرْمتِهِ الشخصيَّةِ، وطهارةُ كِلَّ مِنْهُما تُساعِدُ في طهارةِ الآخر، وقبح كلِّ منهما يسري إلى صاحِبه. وبموجب هذا المبدأ كافح الإسلام بشدّة كُلَّ عمل ينشر السموم في المجتمع، أو يدفعه نحو الهاوية والانحطاط.
ولهذا السبب حارب الإسلام ـ بقوة ـ الغيبة والنميمة، لأن الغيبة تكشف العيوب الخفية، وتسيء إلى حرمة المجتمع.
أوجب الإسلام ستر العيوب والسبب في ذلك هو ما تقدم من الحيلولة دون انتشار الذنوب في المجتمع، واكتسابها طابع العمومية والشمول.
وعندما نرى اختصاص الذنب العلني بأهمية أكثر من الذنب الذي يرتكب في الخفاء... فالسبب هو ما ذكرنا.
وهكذا لنفس السبب يدين القرآن ـ بشدّة ـ ارتكاب الذنوب في العلن، كإشاعة الفحشاء التي ذكرتها الآيات السابقة فارتكاب الذنوب كالنار التي تسري في الهشيم، تأتي على المجتمع مِن أساسه فتنخُره حتى تَهْدِمَهُ وَتَذْروهُ، لهذا يجب الإسراع لإطفاء هذه النار، أو لمحاصرتها على الأقل. أمّا إذا زدنا النار لهيباً، ونقلناها من مكان إلى آخر، فإنّها ستحرق الجميع، ولا يمكن بَعْدَئذ إطفاؤُها أو السيطرة عليها.
وإضافة إلى ذلك، فإنّه لو عظم الذنب في نظر عامّة الناس، وتمّت المحافظة على سلامة ظاهر المجتمع من التلوث والفساد، فإن ذلك يمنع انتشار الفاحشة بصورة مؤكدة. أمّا إشاعة الفحشاء والذنوب والتجاهر بالفسق، فمن شأنها أن تحطم هذا السد الحاجز للفساد. ويستصغر شأن الذنوب من قبل الناس، ويسهل التورط فيها...
وممّا يلزم ذكره أنّ لإشاعة الفحشاء صوراً عديدةً فتارة يكون من قبيل افتعال تهمة كاذبة ونَقلِها بين الناس.
وأخرى يكون بإنشاء مراكِزَ للفساد ونشر الفحشاء.
وثالثة بتوفير وسائل المعصية للناس، أو تشجيعهم على ارتكاب الذنوب،
ورابعة يرتكب الذنب في العلن دون ملاحظة الدين، ولا رعاية لقانون ولا التفات لآداب عامّة، وكل هذه مصاديق لإشاعة الفحشاء. لانّ لهذه الكلمة مفهوماً واسعاً (فتأملوا جيداً).
إن اختلاق ونشر الشائعة الكاذبة يُودِّي إلى سَيْطَرةِ القَلَقِ واستبدادِ الاضطراب وانعدام الثقةِ، وهذِهِ مِن أهَمِّ ما تَرْمي إليه الحَرْبُ النفسيّةُ للمستعمرين بغية إثارة الْبَلْبلةِ وَنشْرَ الفَزَع، ليتسنى لهم التَّغَلُّب العَسكريّ والسياسيّ.
فعندما يعجز العدو عن إلحاق الضرر بصورة مباشرة، يقوم بنشر الشائعات، لبث الرعب والقلق في الناس، ليشغلهم بأنفُسهم، وَلِيَحْرِفَهُمْ عَنْ أهم قضاياهم حساسيةٌ، وليتسنَّى لَهُ الظُهُورُ عليهم والتمكُّنُ مِنهُم في كل مجال. واختلاق الشائعة من الأسلحة المخربة المستعملة ضدّ الصالحين والطيبين، لِعَزْلِهِم وإقصاءِ الناس عنهم.
وبحسب أسباب النّزول المعروفة بشأن الآيات موضع البحث لجأ المنافقون إلى أخَسَّ السبل لتلويث سمعة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والحط من شأنه المقدّس لدى الناس، باختلاق شائعة تمسّ طهارة وعفة إحدى زوجاته مستغلين في ذلك فرصة سنحت لهم، ممّا أدى إلى تشويش أفكار المسلمين، وإدخال الحزن إلى قلوبهم، بحيث اضطرب الجميع وأصاب المؤمنين القلق الشديد حتى نزل الوحي وأنقذهم من هذه الحالة، ومرّغ أنُوفَ المنافقين في الوَحلِ بما اختلقوا هذه الشائعة. وجعلهم عبرة للآخرين.
ورغم أن اختلاق الشائعة يعد نوعاً من الكفاح في المجتمعات التي تسودها الدكتاتورية ويفتقد الناس فيها الحرية… إلاَّ أن من أسبابها ودوافعها الانتقام، وتصفية الحساب مع أشخاص معنيين، وإزالة الثقة العامّة بالشخصيات الكبيرة، وحرف الرأي العام عن القضايا الجوهرية.
ولا يهمنا أن نعلم دوافع اختلاق الشائعات، إنّما المهم تحذير المجتمع من مغبة الوقوع في براثن الذين يختلقون الشائعات وينشرونها بين الناس، وبذلك يدمرون المجتمع وأنفسهم بأيديهم! وأن نعلّم الناس بأن يدفنوا الشائعة في مهدها،وإلاّ فقد أدخلنا السرور إلى قلب العدو، وعرضنا أنفسنا إلى عذاب الدنيا والآخرة كما نصت عليه الآيات السابقة.
يستفاد من الآيات السابقة أنها استنكرتْ استصغار نشر البهتان والتهمة، وهو خطأ فادِحٌ وَجُرْمٌ عظيمٌ وفي الحقيقة إن استصغار الذنب بذاته ذنب آخر. فالذي يرتكب الذنب ويشعر بعظمة ذنبه، ويندم على ما فعل هو الذي يؤمل فيه التوبة والجبران.