{ فلا أقسم } شروع في بيان شأن القرآن والنبوة ، بعد إثبات المعاد ؛ أي أقسم بما ذكر [ آية 75 الواقعة ص 397 ، آية 1 القيامة ص 484 ] . وجواب القسم " إنه لقول رسول كريم " وما عطف عليه . { بالخنس } كركع . جمع خانس ؛ من الخنوس ، وهو الانقباض والاستخفاء . يقال : خنس إبهامه – كنصر وضرب – وخنوسا ، قبضها . وبفلان : غاب به ؛ كتخنس به .
قوله عز وجل :{ فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس } ولا زائدة ، معناه : أقسم بالخنس ، قال قتادة : هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار ، فتخفى فلا ترى . وعن علي أيضاً : أنها الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى ، وتكنس بالليل فتأوي إلى مجاريها . وقال قوم : هي النجوم الخمسة : زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد ، تخنس في مجراها ، أي : ترجع وراءها وتكنس : تستتر وقت اختفائها وغروبها ، كما تكنس الظباء في مغاربها . وقال ابن زيد : معنى الخنس أنها تخنس أي : تتأخر عن مطالعها في كل عام تأخراً تتأخره عن تعجيل ذلك الطلوع ، تخنس عنه بتأخرها . و{ الكنس } أي تكنس بالنهار فلا ترى . وروى الأعمش عن إبراهيم ، عن عبد الله أنها هي الوحش . وقال سعيد بن جبير : هي الظباء . وهي رواية العوفي عن ابن عباس . وأصل الخنوس : الرجوع إلى وراء ، والكنوس : أن تأوي إلى مكانها ، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش .
قوله تعالى : " فلا أقسم " أي أقسم ، و " لا " زائدة ، كما تقدم . " بالخنس ، الجوار الكنس " هي الكواكب الخمسة الدراري : زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة ، فيما ذكر أهل التفسير . والله أعلم . وهو مروي عن علي كرم الله وجهه . وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان : أحدهما : لأنها تستقبل الشمس . قاله بكر بن عبد الله المزني . الثاني : لأنها تقطع المجرة . قاله ابن عباس . وقال الحسن وقتادة : هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت ، وقاله علي رضي الله عنه ، قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل ، وتكنس في وقت غروبها ، أي تتأخر عن البصر لخفائها ، فلا ترى .
وفي الصحاح : " الخنس " : الكواكب كلها ؛ لأنها تخنس في المغيب ، أو لأنها تخنس نهارا . ويقال : هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة . وقال الفراء في قوله تعالى : " فلا أقسم بالخنس . الجواري الكنس " : إنها النجوم الخمسة ، زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد ؛ لأنها تخنس في مجراها ، وتكنس ، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار ، وهو الكناس . ويقال : سميت خنسا لتأخرها ، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم ، يقال : خنس عنه يحنس بالضم خنوسا : تأخر ، وأخنسه غيره : إذا خلفه ومضى عنه . والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة ، والرجل أخنس ، والمرأة خنساء ، والبقر كلها خنس . وقد روي عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : " فلا أقسم بالخنس " هي بقر الوحش . روى هشيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : قال لي عبد الله بن مسعود : إنكم قوم عرب فما الخنس ؟ قلت : هي بقر الوحش . قال : وأنا أرى ذلك . وقال إبراهيم وجابر بن عبد الله . وروي عن ابن عباس : إنما أقسم الله ببقر الوحش . وروى عنه عكرمة قال : " الخنس " : البقر و " الكنس " : هي الظباء ، فهي خنس إذا رأين الإنسان خنسن وانقبضن وتأخرن ودخلن كناسهن . القشيري : وقيل على هذا " الخنس " من الخنس في الأنف ، وهو تأخر الأرنبة وقصر القصبة ، وأنوف البقر والظباء خنس . والأصح الحمل على النجوم ، لذكر الليل والصبح بعد هذا ، فذكر النجوم أليق بذلك .
قلت : لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد ، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك . وقد جاء عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وهما صحابيان والنخعي : أنها بقر الوحش . وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنها الظباء . وعن الحجاج بن منذر قال : سألت جابر بن زيد عن الجواري الكنس ؟ فقال : الظباء والبقر ، فلا يبعد أن يكون المراد النجوم . وقد قيل : إنها الملائكة . حكاه الماوردي . والكنس الغُيَّبُ . مأخوذة من الكناس ، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه . قال أوس بن حجر :
ألم تر أن الله أنزل مُزْنَه *** وعُفْرُ الظباء في الكِنَاسِ تَقَمَّعُ{[15824]}
كأن كِنَاسَيْ ضالةٍ يَكْنُفَانِهَا *** وأَطْرَ قِسِيٍّ تحتَ صُلْبٍ مُؤَيَّدِ{[15825]}
وقيل : الكنوس أن تأوي إلى مكانسها ، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء . قال الأعشى في ذلك :
فلما أتينا الحي أتْلَعَ آنسٌ *** كما أَتْلَعَتْ تحت المكانسِ رَبْرَبُ
يقال : تلع . النهار ارتفع وأتلعت الظبية من كناسها : أي سَمَت بجيدها . وقال امرؤ القيس :
تَعَشَّى{[15826]} قليلا ثم أنْحَى ظُلُوفَهُ *** يثِيرُ التُّرَابَ عن مَبِيتٍ ومَكْنِسِ
والكنس : جمع كانس وكانسة ، وكذا الخنس جمع خانس وخانسة . والجواري : جمع جارية من جرى يجري .
ولما كان السياق للترهيب ، وكان الأليق بآخر عبس أن يكون للكفرة ، وكان أعظم ما يحضره الكفرة من أعمالهم بعد الشرك التكذيب{[71889]} بالحق ، وأعظمه التكذيب بالقرآن ، وذلك التكذيب هو الذي جمع الخزي كله للمكذب به في قوله{ قتل الإنسان ما أكفره }[ عبس : 17 ] الذي السياق كله له ، وإنما استحق المكذب به ذلك لأن التكذيب به يوقع في كل حرج مع أنه لا شيء أظهر منه في أنه كلام الله لما له من الرونق والجمع للحكم والأحكام والمعارف التي لا يقدر على جمعها على ذلك الوجه وترتيبها ذلك الترتيب إلا الله ، ثم وراء ذلك كله أنه معجز ، سبب عن هذا التهديد قوله مقسماً بما دل على عظيم قدر المقسم عليه بترك الإقسام بأشياء هي من الإجلال والإعظام في أسنى مقام : { فلا أقسم } أي لأجل حقية{[71890]} القرآن لأن الأمر فيه غنىً عن قسم لشدة ظهوره وانتشار نوره ، ولذلك أشار إلى عيوب تلحق هذه الأشياء التي ذكرها والقرآن منزه عن كل شائبة نقص ، لأنه كلام الملك الأعلى فقال : { بالخنس * } أي الكواكب التي يتأخر طلوعها عن طلوع الشمس فتغيب في النهار لغلبة ضياء الشمس لها ، وهي النجوم ذوات الأنواء التي{[71891]} كانوا يعظمونها بنسبة الأمطار والرحمة - التي ينزلها الله - إليها{[71892]} ، قالوا : وهي القمر فعطارد فالزهرة فالشمس فالمريخ فالمشتري فزحل وقد نظمها بعضهم متدلياً{[71893]} فقال :
زحل اشترى{[71894]} مريخه من شمسه *** فتزهرت{[71895]} لعطارد أقمار{[71896]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.