يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا } من بعد تلك الرسل { مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : قومه . {[14341]} { بِآيَاتِنَا } أي : حجَجنا وبراهيننا ، { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي : استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له ، { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ } كأنهم - قبَّحهم الله - أقسموا على ذلك ، وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] .
{ قَاَلَ } لهم { مُوسَى } منكرا عليهم : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } أي : تثنينا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : الدّين الذي كانوا عليه ، { وَتَكُونَ لَكُمَا } أي : لك ولهارون { الْكِبْرِيَاء } أي : العظمة والرياسة { فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .
وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى ، عليه السلام ، مع فرعون في كتابه العزيز ؛ لأنها من أعجب القصص ، فإن فرعون حَذر من موسى كل{[14342]} الحذر ، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم ، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده{[14343]} ويرجع إليه ، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان ، فجاءه برسالة الله ، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه{[14344]} السلام ، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية ، والنفس الخبيثة الأبية ، وقوى رأسه وتولّى بركنه ، وادعى ما ليس له ، وتجهرم على الله ، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل ، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون ، ويحوطهما ، بعنايته ، ويحرسهما بعينه التي لا تنام ، ولم تزل{[14345]} المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا{[14346]} بعد شيء ، ومرة{[14347]} بعد مرة ، مما يبهر العقول ويدهش الألباب ، مما لا يقوم له شيء ، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله ، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وصمم فرعون وَمَلَؤه - قبحهم الله - على التكذيب بذلك كله ، والجحد والعناد والمكابرة ، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد ، وأغرقهم في صبيحة{[14348]} واحدة أجمعين ، { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 45 ] .
يريد ب { الحق } آيتي العصا واليد ، ويدل على ذلك قولهم عندهما : هذا سحر ولم يقولوا ذلك إلا عندهما ولا تعاطوا إلا مقاومة العصا فهي معجزة موسى عليه السلام التي وقع فيها عجز المعارض ، وقرأ جمهور الناس : «لسحر مبين » وقرأ سعيد بن جبير والأعمش : «لساحر مبين »{[6186]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلما جاءهم الحق من عندنا}، يعنى موسى وما جاء به من الآيات،
{قالوا إن هذا لسحر مبين} يعني بيِّن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"فَلَمّا جاءَهُم الحَقّ مِنْ عِنْدِنا" يعني: فلما جاءهم بيان ما دعاهم إليه موسى وهارون، وذلك الحجج التي جاءهم بها، وهي الحقّ الذي جاءهم من عند الله، "قالُوا إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ "يعنون: أنه يبين لمن رآه وعاينه أنه سحر لا حقيقة له. قالَ مُوسَى لهم: "أتَقُولُونَ للْحَقّ لَمَا جَاءكُمْ" من عند الله: "أسحْرُ هَذَا"؟...
قال موسى لهم: "أتَقُولُونَ للحَقّ لما جاءَكُمْ" وهي الآيات التي أتاهم بها من عند الله حجة له على صدقه، سحر، أسحر هذا الحقّ الذي ترونه؟ وقوله: "ولا يُفْلِحُ السّاحِرُونَ" يقول: ولا ينجح الساحرون ولا يبقون.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ما زَادَهم الحقُّ سبحانه بياناً إلا ازدادوا طغياناً، وذلك أنه تعالى أجرى سُنَتَّه في المردودين عن معرفته أنه لا يزيد في الحجج هدًى إلا ويزيد في قلوبهم عَمَىً، ثم خفى عليهم قصود النبيين صلوات الله عليهم أجمعين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا}: فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهارون {قالوا} لحبهم الشهوات {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلاّ تمويهاً وباطلاً.
اعلم أن هذا الكلام غني عن التفسير. وفيه سؤال واحد، وهو أن القوم لما قالوا: {إن هذا لسحر مبين}، فكيف حكى موسى عليه السلام أنهم قالوا: {أسحر هذا} على سبيل الاستفهام؟
وجوابه: أن موسى عليه السلام ما حكى عنهم أنهم قالوا: {أسحر هذا} بل قال: {أتقولون للحق لما جاءكم} ما تقولون، ثم حذف عنه مفعول {أتقولون} لدلالة الحال عليه، ثم قال مرة أخرى {أسحر هذا} وهذا استفهام على سبيل الإنكار، ثم احتج على أنه ليس بسحر، وهو قوله: {ولا يفلح الساحرون} يعني أن حاصل صنعهم تخييل وتمويه {ولا يفلح الساحرون} وأما قلب العصا حية وفلق البحر، فمعلوم بالضرورة أنه ليس من باب التخييل والتمويه، فثبت أنه ليس بسحر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر سبحانه باستكبارهم، بيّن أنه تسبب عنه طعنهم في معجزاته من غير تأمل، بل بغاية المبادرة والإسراع بما أشعرت به الفاء والسياق، فقال تعالى: {فلما جاءهم} أي فرعون وملؤه {الحق} أي البالغ في الحقية، ثم زاد في عظمته بقوله: {من عندنا} أي على ما لنا من العظمة التي عرفوا بها أنه منا، لا من الرسولين {قالوا} أي غير متأملين له ولا ناظرين في أمره بل عناداً ودلالة على استكبارهم مؤكدين لما علموا من تصديق الناس به {إن هذا لسحر مبين} كما قال الناس الذين أخبر عنهم سبحانه في أول السورة في هذا القرآن وما أبانه من البعث.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ} وهو آياتنا الدالة على الربوبية والألوهية {مِنْ عِندِنَا} ووحينا إلى موسى -كما هو مفصل في أول سورة الشعراء وغيرها- المبطل لادعاء فرعون لهما بقوله: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] وقوله: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38].
{قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي أقسموا أن هذا الذي جاء به موسى من الآيات الدالة على صدقه إنما هو سحر بين ظاهر، وإنما السحر صناعة باطلة هم أحذق الناس بها، فكيف يتبعون ما جاء ينازعهم سلطانهم بها، فماذا قال لهم موسى؟
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لم يكفهم -قبحهم الله- إعراضهم ولا ردهم إياه، حتى جعلوه أبطل الباطل، وهو السحر: الذي حقيقته التمويه، بل جعلوه سحرًا مبينًا، ظاهرًا، وهو الحق المبين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بهذا التحديد.. (من عندنا).. ليصور شناعة الجريمة فيما قالوه عن هذا الحق الصادر من عند اللّه:
بهذا التوكيد المتبجح الذي لا يستند مع هذا إلى دليل.. (إن هذا لسحر مبين).. كأنها جملة واحدة يتعارف عليها المكذبون في جميع العصور! فهكذا قال مشركو قريش، كما حكي عنهم في مطلع السورة، على تباعد الزمان والمكان، وعلى بعد ما بين معجزات موسى ومعجزة القرآن!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والحقُّ: يطلق اسماً على ما قابل الباطل وهو العدل الصالح، ويطلق وصفاً على الثابت الذي لا ريبة فيه، كما يقال: أنت الصديق الحق. ويُلازم الإفراد لأنه مصدر وصف به. والذي أثبت له المجيء هنا هو الآيات التي أظهرها موسى إعجازاً لهم...
وقد جاءهم الحق على لسان الرسل-عليهم السلام-وعلى كل إنسان أن يفهم أنه حين يستقبل من الرسول رسالة الحق، فليفهم أنها رسالة ليست ذاتية الفكر من الرسول، بل قد أرسله بها الله الخالق الأعلى سبحانه وتعالى.
ولذلك فالمتأبي على الرسول، لا يتأبَّى على مساو له؛ لأن الرسول هو مبلغ عن الله تعالى، والله سبحانه هو الذي بعثه، ويجب على الإنسان أن يعرف قدر البلاغ القادم من الله الحق؛ لأنه سبحانه هو الحق الأعلى، وهو الذي خلق كل شيء بالحق: سماء مخلوقة بالحق، وأرض مخلوقة بالحق، وشمس تجري بالحق، ومطر ينزل بالحق، وكل شيء ثابت ومتحرك بقوانين أرادها الحق سبحانه.
ولو سيطر الإنسان-دون منهج-على قوانين الكائنات لأفسدها؛ لأن الفساد إنما يأتي مما للإنسان دخل فيه، ويدخل إليه بدون منهج الله.
والفساد إنما يجيء من ناحية اختيار الإنسان للبدائل التي لا يخضع فيها لمنهج الله تعالى.
ولذلك إن أردتم أن تستقيم حياتكم استقامة الكائنات العليا التي لا دخل لكم فيه، فامتثلوا لمنهج الحق وميزانه؛ لأنه سبحانه هو القائل: {والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8)} [الرحمن]: أي: إن كنتم تريدون أن تعتدل أموركم، وتنضبط انضباط الكائنات الأخرى فلتكن إرادة الاختيار المخلوقة لكم خاضعة لمنهج الله تعالى، وتسير في إطار هذا المنهج الرباني.
وحين نتأمل قول الحق سبحانه: {فلما جاءهم الحق من عندنا}
نجد في هذا القول توجيها إلى أن الحق لم يأت من ذوات الرسل؛ فهذه الذوات لا دخل لها في الموضوع، وإياك أن تهاجم رسالة حق جاءتك من إنسان لا تحبه، بل ناقش الحق في ذاته، ولا تدخل في متاهة البحث عمن جاء بهذا الحق، وانظر إلى من كفروا بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم من قالوا: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف 31]: وهم بذلك قد أدخلوا النازل عليه القرآن في الحكم، مع أن العقل كان يقتضي أن ينظروا إلى القرآن في ذاته، وأن يأخذوا الحكمة من أي وعاء خرجت.
وعليك أنت أن تستفيد من هذا الأمر، وخذ الحكمة من أي قائل لها، ولا تنظر إلى من جاءت الحكمة منه، فإن كنت تكرهه فأنت ترفض أن تأخذ الحكمة منه، وإن كنت تحبه أخذتها. لا، إن عليك أن تأخذ الحكمة ما دامت قد جاءت بالحق؛ لأنك إن لم تأخذها أضعت نفسك.
والحق هو الشيء الثابت، وإن ظهر في بعض الأحيان أن هناك من طمس الحق، وأن الباطل تغلب عليه، فهذا يعني ظهور المفاسد؛ فيصرخ الناس طالبين الحق.
وانتشار المفاسد هو الذي يجعل الناس تستدعي الحق، وتتحمس له؛ لأن الباطل حين يعضُّ الناس، تجدهم يتجهون إلى الحق ليتمسكوا به...
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين}: ولأنهم كانوا مشهورين بالسحر؛ ظنوا أن الآيات التي جاءت مع موسى-عليه السلام-هي السحر المبين، أي: السحر الظاهر الواضح.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ جاذبية دعوة موسى الخارقة من جهة، ومعجزاته الباهرة من جهة أُخرى، وتزايد نفوذه بصورة محيرة من جهة ثالثة، دفعت الفراعنة إِلى التفكير في حل لهذه المسألة، فلم يجدوا وسيلة أفضل من رميه بالسحر، فأعلنوا أنّه ساحر وأنّ عمله سحر ليس إِلاّ، وهذه التهمة سائدة في جميع مراحل الأنبياء وعلى طول تاريخهم، خاصّة نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)...