وقوله : فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ يعني بذلك جَلّ ثناؤه : صالحا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لثمود صَالحٌ : ناقَةَ اللّهِ وَسُقْياها احذَروا ناقة الله وسُقياها ، وإنما حذّرهم سُقيَا الناقة ، لأنه كان تقدّم إليهم عن أمر الله ، أن للناقة شِرَب يوم ، ولهم شِرْب يومٍ آخر ، غير يوم الناقة ، على ما قد بيّنت فيما مضى قبل ، وكما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ناقَةَ اللّهِ وسُقْياها قَسْم الله الذي قسم لها من هذا الماء .
وقدم ذكر هذا الظرف عن موقعه بعد قوله : { فقال لهم رسول الله ناقة الله } لأن انبعاث أشقاها لعقر الناقة جُزئي من جزئيات طغواهم فهو أشد تعلقاً بالتكذيب المسبب عن الطغوى ففي تقديمه قضاء لحق هذا الاتصال ، ولإفادة أن انبعاث أشقاهم لعقر الناقة كان عن إغراء منهم إياه ، ولا يفوت مع ذلك أنه وقع بعد أن قال لهم رسول الله ناقة الله ، ويستفاد أيضاً من قوله : { فعقروها } .
و { أشقاها } : أشدها شِقوة ، وعني به رجل منهم سماه المفسرون قُدار ( بضم القاف وتخفيف الدال المهملة ) بن سالف ، وزيادته عليهم في الشقاوة بأنه الذي باشر الجريمة وإن كان عن ملإ منهم وإغراء .
والفاء من قوله : { فقال لهم رسول الله } عاطفة على { كذبت } فتفيد الترتيب والتعقيب كما هو الغالب فيها ، ويَكون معنى الكلام : كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحداهم بآية الناقة وحذَّرهم من التعرض لها بسوء ومِن منعهم شربها في نوبتها من السُّقيا ، وعطف على { فكذبوه } ، أي فيما أنذرهم به فعقروها بالتكذيب المذكور أول مرة غير التكذيب المذكور ثانياً . وهذا يقتضي أن آية الناقة أرسلت لهم بعد أن كذبوا وهو الشأن في آيات الرسل ، وهو ظاهر ما جاء في سورة هود .
ويجوز أن تكون الفاء للترتيب الذكري المجرد وهي تفيد عطف مفصل على مجمل مثل قوله تعالى : { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه } [ البقرة : 36 ] فإن إزلالهما إبعادهما وهو يحصل بعد الإِخراج لا قبله . وقوله : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } [ الأعراف : 4 ] ، فيكون المعنى : كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها . ثم فُصل ذلك بقوله : { فقال لهم رسول اللَّه } إلى قوله : { فعقروها } ، والعقر عند انبعاث أشقاها ، وعليه فلا ضرورة إلى اعتبار الظرف وهو : { إذ انبعث أشقاها } مقدَّماً من تأخير .
وأعيدت عليهم ضمائر الجمع باعتبار أنهم جمع وإن كانت الضمائر قبله مراعىً فيها أن ثمود اسم قبيلة .
وانتصب { ناقة اللَّه } على التحذير ، والتقدير : احذروا ناقة الله . والمراد : التحذير من أن يؤذوها ، فالكلام من تعليق الحكم بالذوات ، والمرادُ : أحوالها .
وإضافة { ناقة } إلى اسم الجلالة لأنها آية جعلها الله على صدق رسالة صالح عليه السلام ولأن خروجها لهم كان خارقاً للعادة .
والسقيا : اسم مصدر سَقى ، وهو معطوف على التحذير ، أي احذروا سقيها ، أي احذروا غصب سقيها ، فالكلام على حذف مضاف ، أو أطلق السقيا على الماء الذي تسقى منه إطلاقاً للمصدر على المفعول فيرجع إلى إضافة الحكم إلى الذات . والمراد : حالة تعرف من المقام ، فإن مادة سقيا تؤذن بأن المراد التحذير من أن يسقوا إبلهم من الماء الذي في يوم نوبتها .
والتكذيب المعقب به تحذيره إياهم بقوله : { ناقة اللَّه } ، تكذيب ثاننٍ وهو تكذيبهم بما اقتضاه التحذير من الوعيد . والإِنذار بالعذاب إن لم يحذروا الاعتداء على تلك الناقة ، وهو المصرح به في آية سورة الأعراف ( 73 ) في قوله : { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني بالرسول صالحا صلى الله عليه وسلم ، وهو بين لهم أمر الناقة وشربها ، وما يفعل الله عز وجل بهم إن كذبوا وعقروا الناقة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جَلّ ثناؤه : صالحا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لثمود صَالحٌ : "ناقَةَ اللّهِ وَسُقْياها" احذَروا ناقة الله وسُقياها ، وإنما حذّرهم سُقيَا الناقة ، لأنه كان تقدّم إليهم عن أمر الله ، أن للناقة شِرَب يوم ، ولهم شِرْب يومٍ آخر ، غير يوم الناقة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما : أي احذروا ناقة الله ، وهو كقوله : { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم } [ الأعراف : 73 ] .
والثاني : أي قال احذروا ناقة الله تأكل في أرض الله ، وذروا بين الناقة { وسقياها } وشربها .
ثم أضيفت الناقة إلى الله تعالى لوجهين :
أحدهما : أن الله تعالى لم يأذن لأحد بتملكها حتى ينسب إليه الملك ؛ بل بقيت غير مملوكة لأحد ، فأضيفت إلى الله تعالى كما أضيفت إليه المساجد لما لا ملك لأحد عليها .
الثاني : أنها أضيفت إلى الله تعالى على معنى التفضيل .
وقال لهم هي : { ناقة الله } وآيته الدالة على توحيده وعلى نبوتي ، فاحذروا أن تقوموا عليها بسوء ، واحذروا أيضا أن تمنعوها من سقياها .... فاقتصر على أن قال لهم : { ناقة الله وسقياها } لأن هذه الإشارة كافية مع الأمور المتقدمة التي ذكرناها . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ رسول الله } أي الملك الذي له الأمر كله ، فتعظميه من تعظيم مرسله وهو صالح عليه الصلاة والسلام وكذا الناقة ، وعبر بالرسول لأن وظيفته الإبلاغ والتحذير الذي ذكر هنا ، ولذا قال مشيراً بحذف العامل إلى ضيق الحال عن ذكره لعظيم الهول وسرعة التعذيب عند مسها بالأذى ، وزاد في التعظيم بإعادة الجلالة : { ناقة الله } أي الملك الأعظم الذي له الجبروت كله فلا يقر من انتهك حرمته واجترأ على ما أضافه إليه ، ولهذا أعاد الإظهار دون الإضمار ، والعامل : دعوا أو احذروا - أو نحو ذلك أي احذروا أذاها بكل اعتبار...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فلا تمسّوها بسوء ، واجعلوا لها يوماً تشرب فيه من ينابيع الماء الموجودة لديكم ، ليتحوّل ذلك إلى لبنٍ تتغذون منه ، واجعلوا لكم يوماً آخر ، فهذه هي النعمة العظيمة التي أنزلها الله لتكون في مستوى الآية المعجزة ، وهذا هو البلاء الذي يمتحنكم فيه ليختبر في ما يظهر من مواقفكم صدق إيمانكم وكذبه ....