وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة هائلا عميقا مديدا :
( يسألونك عن الساعة : أيان مرساها ? فيم أنت من ذكراها ? إلى ربك منتهاها . إنما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) . .
وكان المتعنتون من المشركين يسألون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] كلما سمعوا وصف أهوال الساعة وأحداثها وما تنتهي إليه من حساب وجزاء . . متى أو إيان موعدها . . أو كما يحكي عنهم هنا : ( أيان مرساها ? ) . .
ثم قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } أي : ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق ، بل مَردها ومَرجعها إلى الله عز وجل ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين ، { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ } [ الأعراف : 187 ] ، وقال هاهنا : { إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } ولهذا{[29689]} لما سأل جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة قال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " . {[29690]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىَ رَبّكَ مُنتَهَاهَآ * إِنّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ عَشِيّةً أَوْ ضُحَاهَا } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يسألك يا محمد هؤلاء المكذّبون بالبعث عن الساعة التي تبعث فيها الموتَى من قبورهم أيانَ مرساها ، متى قيامها وظهورها ؟ وكان الفرّاء يقول : إن قال قائل : إنما الإرساء للسفينة ، والجبال الراسية وما أشبههنّ ، فكيف وصَفَ الساعة بالإرساء ؟ قلت : هي بمنزلة السفينة إذا كانت جارية فرست ، ورسوّها : قيامها قال : وليس قيامها كقيام القائم ، إنما هي كقولك : قد قام العدل ، وقام الحقّ : أي ظهر وثبت .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يسألك يا محمد هؤلاء المكذّبون بالبعث عن الساعة التي تبعث فيها الموتَى من قبورهم" أيانَ مرساها"، متى قيامها وظهورها؟ وكان الفرّاء يقول: إن قال قائل: إنما الإرساء للسفينة، والجبال الراسية وما أشبههنّ، فكيف وصَفَ الساعة بالإرساء؟ قلت: هي بمنزلة السفينة إذا كانت جارية فرست، ورسوّها: قيامها قال: وليس قيامها كقيام القائم، إنما هي كقولك: قد قام العدل، وقام الحقّ: أي ظهر وثبت...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وهي القيامة، سميت ساعة إما ليخف أمرها على من إليه تدبيرها، أو سميت ساعة لسرعة كونها إذا أتى وقتها، أو سميت لقربها إلى الحالة التي كانوا عليها كقوله تعالى: {أتى أمر الله} [النحل: 1]. ثم إن كان هذا السؤال من المؤمنين فهو سؤال استهداء؛ كأنه لما قيل لهم {إذا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] [قيل]: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] قالوا: متى تكون الساعة، فنزلت هذه الآية. وجائز أن يكون السؤال من الكفرة لما ذكرنا أنه ليس في تبيين وقتها كثير منفعة حتى تقع الحاجة للمسلمين إلى تبيينه بالسؤال، فيسألون سؤال استهزاء واستخفاف برسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه استعجالها بقوله: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} [الشورى: 18] فكانوا يسألونه عن شيء يعلمون أنهم متعنتون في السؤال قصدا منهم [للتمويه] والتلبيس على الضعفة والأتباع لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك الوقت ليس هو وقت مجيء الساعة. وإذا طلبوا الاستعجال علموا أنه لا يتهيأ له أن يريهم في ذلك الوقت لأن ذلك يخرج مخرج خلاف الوعد، فيحتجون على الضعفة أنه لو كان صادقا في مقالته: إن الساعة تكون لكانوا متى طلبوا مجيئها يأتهم بها...
{يسألونك عن الساعة أيان مرساها}. واعلم أن المشركين كانوا يسمعون أنباء القيامة، ووصفها بالأوصاف الهائلة، مثل أنها طامة وصاخة وقارعة، فقالوا على سبيل الاستهزاء...
(أحدهما): متى إرساؤها، أي إقامتها، أرادوا متى يقيمها الله ويوجدها ويكونها.
(والثاني): {أيان} منتهاها ومستقرها، كما أن مرسى السفينة مستقرها حيث تنتهي إليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يسئلونك} أي قريش على سبيل التجديد والاستمرار سؤال استهزاء وإنكار واستبعاد: {عن الساعة} أي البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم بها عن أمرنا. ولما كان السؤال عنها مبهماً بينه بقوله: {أيان مرساها} أي في أي- وقت إرساؤها أي وقوعها أو ثباتها واستقرارها...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
الساعة: هي ساعة يبعث الله الخلائق من قبورهم،... وربما سألوه عن تحديد وقتها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد في نفسه ما يقولون، ويتمنى لو أمكن أن يجيب عما يسألون، كما هو شأن الحريص على الهداية، المجد في الإقناع- فنهاه الله عن تمني ما لا يرجى، وأبان له أنه لا حاجة لك إلى ذلك، فإن علمها عند ربك، وإنما شأنك أن تنذر من يخافها فتنبهه من غفلته، حتى يستعد لما يلقاه حينئذ، أما هؤلاء المعاندون فدعهم في غوايتهم، ولا تشغل نفسك بالجواب عما يسألون، فإذا جاء هذا اليوم خيل إليهم أنهم لم يلبثوا من يوم خلقوا إلى يوم البعث إلا طرفا من نهار أوله أو آخره، ولم يلبثوا نهارا كاملا لمفاجأتهم لهم على غير استعداد لوقوعها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وكان سؤالهم استهزاء واستخفافاً لأنهم عقدوا قلوبهم على استحالة وقوع الساعة وربما طلبوا التعجيل بوقوعها وأوهموا أنفسهم وأشياعهم أن تأخر وقوعها دليل على اليأس منها لأنهم يتوهمون أنهم إذا فعلوا ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان صادقاً لحَمِي غضب الله مُرسِله سبحانه فبادر بإراءتهم العذاب وهم يتوهمون شؤون الخالق كشؤون الناس إذا غضب أحدهم عجَّل بالانتقام طيشاً وحنقاً...
وحكي فعل السؤال بصيغة المضارع للدلالة على تجدد هذا السؤال وتكرره. والساعة: هي الطامة فذكر الساعة إظهار في مقام الإِضمار لقصد استقلال الجملة بمدلولها مع تفنن في التعبير عنها بهذين الاسمين {الطامة} [النازعات: 34] و {الساعة}. و {أيان مرساها} جملة مبينة للسؤال. و {أيّان} اسم يستفهم به عن تعيين الوقت. والاستفهام مستعمل في الاستبعاد كنايةً وهو أيضاً كناية عن الاستحالة و {مرساها} مصدر ميمي لفعل أرسى...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
كان المشركون يثيرون مع النبي (صلى الله عليه وسلم) مسألة توقيت الساعة، أي يوم القيامة، للدخول في جدلٍ عقيم معه، لأن القضية هي قضية تصديقه في كلامه كمدخلٍ لتصديقه في رسالته، فإذا كانوا يصدقونه فيها فلا معنى للسؤال عن الموعد، لأن ذلك لا يؤخر ولا يقدّم في الموضوع شيئاً، وإذا كانوا لا يصدقونه، فما فائدة الحديث عن التوقيت إذا كان المبدأ غير واردٍ عندهم؟!...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة): فتقول أوّلاً: (يسألونك عن الساعة أيّان مرساها). والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع القيامة، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها، ويقول: (فيم أنت من ذكراها)...