وقوله تعالى إخبارا عن المترفين المكذبين : { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينََ } أي : افتخروا بكثرة الأموال والأولاد ، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم واعتنائه بهم ، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ، ثم يعذبهم في الآخرة ، وهيهات لهم ذلك . قال الله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] وقال : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] ، {[24369]} وقال تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا . وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا . سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا . } [ المدثر : 11 - 17 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا} أيضا لفقراء المسلمين أهؤلاء خير منا أم هم أولى بالله منا؟
{نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال أهل الاستكبار على الله من كل قرية أرسلنا فيها نذيرا لأنبيائنا ورسلنا:"نحن أكْثَرُ أمْوَالاً وأوْلادا وَما نَحْنُ" فِي الآخرَةِ "بِمُعَذّبينَ "لأن الله لو لم يكن راضيا ما نحن عليه من الملة والعمل لم يخوّلنا الأموال والأولاد، ولم يبسط لنا في الرزق، وإنما أعطانا ما أعطانا من ذلك لرضاه أعمالنا، وآثرنا بما آثرنا على غيرنا لفضلنا، وزلفة لنا عنده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمُعذَّبين} قالوا ذلك لما يروا الحكمة أن يُحسن أحد إلى عدوّه، والسعة هي من الفضل والإحسان، ثم رأوا لأنفسهم ذلك؟ ظنوا أنهم أولياء الله، وأن الرسل حين ضُيّقت عليهم الدنيا إنما ضُيّقت عليهم الدنيا لأنهم ليسوا بأولياء الله، لذلك قالوا {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذَّبين}. وهذا القول منهم لإنكارهم البعث، فلو كانوا مُقرّين به لكانوا لا يقولون ذلك، ويعلمون أن السعة في الدنيا والضيق فيها بحق الامتحان، وأما إذا كان بعث ودار أخرى للجزاء ففي الحكمة أن يجزى الوليّ جزاء الولاية والمسيء من العدو جزاء الإساءة والعداوة، وأما الدار التي هي دار امتحان وابتلاء فيجوز ذلك بحق الامتحان في الحكمة، ولذلك خرج الجواب لهم في الآية 36 قوله {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر}...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ليس هذا بكثرة الأَموال وَالأولاد، وإِنما هي بصائرُ مفتوحةٌ لقوم، وأخرى مسدودةٌ لقوم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم، نظراً إلى أحوالهم في الدنيا.
ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد فقالوا: {نحن أكثر أموالا وأولادا} أي بسبب لزومنا لديننا.
{وما نحن بمعذبين} أي في الآخرة كأنهم قالوا حالنا عاجلا خير من حالكم، وأما آجلا فلا نعذب إما إنكارا منهم للعذاب رأسا، أو اعتقادا لحسن حالهم في الآخرة أيضا قياسا على حسن حالهم في الدنيا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الأموال في الأغلب سبباً لكثرة الأولاد بالاستكثار من النساء الحرائر والإماء، قدمها فقال: {أموالاً وأولاداً} أي في هذه الدنيا.
{وما نحن} أي الآن {بمعذبين} أي بثابت عذابنا، ولم تنفعهم قصة سبأ في ذلك فإنهم لو تأملوا لكفتهم، وأنارت أبصار بصائرهم، وصححت أمراض قلوبهم وشفتهم، فإنهم كانوا أحسن الناس حالاً، فصاروا أقبحهم مآلاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والمترفون تخدعهم القيم الزائفة والنعيم الزائل، ويغرهم ما هم فيه من ثراء وقوة، فيحسبونه مانعهم من عذاب الله، ويخالون أنه آية الرضى عنهم، أو أنهم في مكان أعلى من الحساب والجزاء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... هذا المبدأ الوهمي السفسطائي خطير في العقائد الضالة التي كانت لأهل الجاهلية والمنتشرة عند غير المسلمين، ولا يخلو المسلمون من قريب منها في تصرفاتهم في الدين، ومرجعها إلى قياس الغائب على الشاهد، وهو قياس يصادف الصواب تارة ويخطئه تارات...
ومن أكبر أخطاء المسلمين في هذا الباب خطأ اللجَأ إلى القضاء والقدر في أعذارهم، وخطأ التخلق بالتوكل في تقصيرهم وتكاسلهم...
ولو تأملتم أسباب الرزق لرأيتموها لا تلاقي أسباب الغي والاهتداء، فربما وسع الله الرزق على العاصي وضيّقه على المطيع وربما عكس فلا يغرنهم هذا وذاك فإنكم لا تعلمون... وهذا ما جعل قوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} مصيباً المحزّ، فأكثر الناس تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها، ولا يضعون في مواضعها زيْنها وشَيْنها، وقد أفاد هذا أن حالهم غير دالّ على رضَى الله عنهم ولا على عدمه، وهذا الإِبطال هو ما يسمى في علم المناظرة نقضاً إجمالياً...
قلنا إن الدين إنما جاء ليُحدِث توازناً في المجتمع واستطراقاً عقدياً واقتصادياً واجتماعياً، فمنطق هؤلاء الذين كفروا بالرسل أنهم ليسوا في حاجة إلى هذا كله، فعندهم المال والأولاد، وعندهم كل مُتع الحياة.
{وَقَالُواْ..} أي: في حيثيات كفرهم {نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً} بل أكثر من ذلك يأخذهم غرورهم إلى أن يقولوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لماذا؟ يقولون: لأن الله ما كان ليعطينا هذا النعيم في الدنيا، ويضنّ علينا في الآخرة.
لكن نقول لهم: أنتم واهمون، ففَرْق بين عطاء الألوهية وعطاء الربوبية، الله تعالى أعطاكم بعطاء الربوبية الذي يشمل الجميع المؤمنَ والكافر، والطائع والعاصي، أما عطاء الألوهية فتكليف، فالله يعطيكم في الدنيا بعطاء الربوبية، ويعاقبكم في الآخرة بمقتضى الألوهية.
وهذه الحيثية منهم: {نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً} حجة عليهم لا لهم، فمن أين لكم هذا الخير؟ ثم إن كثرة الأموال كان يجب أنْ تحملكم على نواحي الخير، وكثرة الأولاد كان ينبغى أنْ تجعلوا منهم [عونا] لكم على الحق، إذن: كفركم بعد هذه النِّعَم دليل على أنكم استخدمتموها في الباطل وفي الظلم والطغيان.
وما أشبه قولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} بقول صاحب الجنة:
{وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36] وهذا بَطَر بنعمة الله وغرور بها، فليس بين الله تعالى وبين أحد من خَلْقه قرابة ولا نسب، لينعم في الدنيا وينعم في الآخرة بلا عمل، فهؤلاء فتنتهم المال، وفتنتهم الذرية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعض المفسّرين احتملوا أن يكون قولهم: (وما نحن بمعذّبين) دليلا على إنكارهم الكلّي للقيامة والعذاب. ولكن الآيات اللاحقة تدلّل على عدم قصد هذا المعنى، بل المراد هو القرب من الله بسبب الثروة التي يملكونها.