{ لو ما تأتينا بالملائكة } يشهدون لك بصحة ما جئت به { إن كنت من الصادقين } فلما لم تأت بالملائكة فلست بصادق ، وهذا من أعظم الظلم والجهل .
أما الظلم فظاهر فإن هذا تجرؤ على الله وتعنت بتعيين الآيات التي لم يخترها وحصل المقصود والبرهان بدونها من الآيات الكثيرة الدالة على صحة ما جاء به ، وأما الجهل ، فإنهم جهلوا مصلحتهم من مضرتهم .
{ لَوْ مَا } أي : هلا{ تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ } أي : يشهدون لك بصحة ما جئت به { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } كما قال فرعون : { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [ الزخرف : 53 ] { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } [ الفرقان : 21 ، 22 ]
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ يَأَيّهَا الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنّكَ لَمَجْنُونٌ * لّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون لك من قومك يا محمد : يا أيّها الّذِي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ وهو القرآن الذي ذكر الله فيه مواعظ خلقه ، إنّكَ لَمَجْنُونٌ في دعائك إيانا إلى أن نتّبعك ونذر آلهتنا . لَوْما تَأْتينا بالمَلائِكَةِ قالوا : هلا تأتينا بالملائكة شاهدة لك على صدق ما تقول إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ يعني : إن كنت صادقا في أن الله تعالى بعثك إلينا رسولاً وأنزل عليك كتابا ، فإن الربّ الذي فعل ما تقول بك لا يتعذّر عليه إرسال ملك من ملائكته معك حجة لك علينا وآية لك على نبوّتك وصدق مقالتك . والعرب تضع موضع «لوما » «لولا » ، وموضع «لولا » «لوما » ، من ذلك قول ابن مقبل :
لَوْما الحَياءُ وَلَوْما الدّينُ عِبْتُكما *** ببَعْضِ ما فيكُما إذْ عِبْتُما عَوَرِي
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ قال : القرآن .
جملة { لو ما تأتينا بالملائكة } استدلال على ما اقتضته الجملة قبلها باعتبار أن المقصود منها تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام لأن ما يصدر من المجنون من الكلام لا يكون جارياً على مطابقة الواقع فأكثره كذب .
و { لو ما } حرف تحضيض بمنزلة لولا التحضيضية . ويلزم دخولها الجملة الفعلية .
والمراد بالإتيان بالملائكة حضورهم عندهم ليخبرهم بصدقه في الرسالة . وهذا كما حكى الله في الآية الأخرى بقوله تعالى : { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } [ سورة الإسراء : 92 ] .
و{ من الصادقين } أي من الناس الذين صفتهم الصدق ، وهو أقوى من ( إن كنت صادقاً ) ، كما تقدم في قوله تعالى : { وكونوا مع الصادقين } في سورة براءة ( 219 ) ، وفي قوله : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } في سورة البقرة ( 67 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وقالوا له: {لو ما تأتينا}، يعني أفلا تجيئنا {بالملائكة}، فتخبرنا بأنك نبي مرسل، {إن كنت من الصادقين}، أي بأنك نبي مرسل، ولو نزلت الملائكة لنزلت إليهم بالعذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"لَوْما تَأْتينا بالمَلائِكَةِ" قالوا: هلا تأتينا بالملائكة شاهدة لك على صدق ما تقول "إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ" يعني: إن كنت صادقا في أن الله تعالى بعثك إلينا رسولاً وأنزل عليك كتابا، فإن الربّ الذي فعل ما تقول بك لا يتعذّر عليه إرسال ملك من ملائكته معك حجة لك علينا وآية لك على نبوّتك وصدق مقالتك. والعرب تضع موضع «لوما» «لولا»، وموضع «لولا» «لوما»...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تأويله، والله أعلم: يقولون له، إنك تزعم أن الملائكة يأتونك بالوحي، فهلا أظهرت لنا إذا أتوك، فننظر إليهم... وقال بعضهم: {لو ما تأتينا بالملائكة} فيشهدون أنك رسول الله، وأنك أرسلت على ما تدعي من الرسالة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اقترحوا عليه الإتيان بالملائكة بعد ما أزيحت العلة عليهم بما أَيَّد به معجزاته، فيتوجب اللَّوْمُ عليهم لسوءِ أَدَبِهم. وأخبر الحقُّ -سبحانه- أنه أجرى عادته أنه إذا أظهر الملائكةَ لأبصارِ بني آدم فيكون ذلك عند استبصارهم؛ لأنه تصير المعرفة ضرورية. وفي المعلوم أنه لم يكن ذلك الوقتُ أَوَانَ هَلاَكِهم؛ لِعِلْمِه أنَّ في أصلابهم مَنْ يُؤْمِنُ بالله سبحانه في المستأنف...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَّوْ} ركبت مع «لا» و «ما» لمعنيين: معنى امتناع الشيء لوجود غيره، ومعنى التحضيض...
والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارك، كقوله تعالى {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 7] أو: هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقاً كما كانت تأتي الأمم المكذبة برسلها؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
تم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا: {لو ما} أي هلا ولم لا {تأتينا بالملائكة} دليلاً على صدقك إما للشهادة لك وإما لإهلاك من خالفك {إن كنت} أي جبلة وطبعاً {من الصادقين} فيما تقول، أي ما وجه اختصاصك عنا بنزول الملائكة عليك ورؤيتك إياهم وأنت مثلنا في الإنسانية والنسب والبلد؟ هذا بعد أن قامت على صدقه الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي أعظمها القرآن الداعي لهم إلى المبارزة كل حين المبكت لهم بالعجز عن المساجلة كل وقت.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إن كنت من الصادقين} فلما لم تأت بالملائكة فلست بصادق، وهذا من أعظم الظلم والجهل. أما الظلم فظاهر فإن هذا تجرؤ على الله وتعنت بتعيين الآيات التي لم يخترها وحصل المقصود والبرهان بدونها من الآيات الكثيرة الدالة على صحة ما جاء به، وأما الجهل، فإنهم جهلوا مصلحتهم من مضرتهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين!). وطلب نزول الملائكة يتكرر في هذه السورة وفي غيرها، مع الرسول [صلى الله عليه وسلم] ومع غيره من الرسل قبله: وهو كما قلنا ظاهرة من ظواهر الجهل بقيمة هذا الكائن الإنساني الذي كرمه الله، فجعل النبوة في جنسه، ممثلة في أفراده المختارين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {لو ما تأتينا بالملائكة} استدلال على ما اقتضته الجملة قبلها باعتبار أن المقصود منها تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام لأن ما يصدر من المجنون من الكلام لا يكون جارياً على مطابقة الواقع فأكثره كذب.
و {من الصادقين} أي من الناس الذين صفتهم الصدق، وهو أقوى من (إن كنت صادقاً)، كما تقدم في قوله تعالى: {وكونوا مع الصادقين} في سورة براءة (219)، وفي قوله: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} في سورة البقرة (67).
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
و (ما) تدل على النفي في الماضي، وقد جمع في هذه الآية الكريمة بين (ما)، وفعل المضارع بعدها، فدلت على أن الامتناع عن الإيمان في الماضي لعدم إتيان الملائكة به، وأنهم مستمرون على عدم الإيمان ما دامت الملائكة لم تنزل به.وقد رد الله كلامهم الدال على الإمعان في الكفر والتعلة للإيغال فيه، فقال في آية أخرى: {ولو جعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام 9] وتعنتوا بهذا وبغيره، واقرأ ما جاء أول سورة الأنعام، قد قال الله تعالى ردا عليهم: {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7).