{ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ } فهو الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها وهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء . { وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ } أي : ليس علي إلا البلاغ المبين ، { وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } فلذلك صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة ، فأرسل الله عليهم العذاب العظيم وهو الريح التي دمرتهم وأهلكتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ إِنّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللّهِ وَأُبَلّغُكُمْ مّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلََكِنّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قال هود لقومه عاد : إنّمَا العِلْمُ بوقت مجيء ما أعِدُكم به من عذاب الله على كفركم به عند الله ، لا أعلم من ذلك إلا ما علمني وأُبَلّغَكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ يقول : وإنما أنا رسول إليكم من الله ، مبلغ أبلغكم عنه ما أرسلني به من الرسالة وَلَكِنّي أرَاكُمْ قَوْما تَجْهَلُونَ مواضع حظوظ أنفسكم ، فلا تعرفون ما عليها من المضرّة بعبادتكم غير الله ، وفي استعجال عذابه .
المعنى قال لهم هود : إن هذا الوعيد ليس من قبلي ، وإنما الأمر إلى الله وعلم وقته عنده ، وإنما عليَّ أن أبلغ فقط .
وقرأ جمهور الناس : «وأبَلّغكم » بفتح الباء وشد اللام . قال أبو حاتم : وقرأ أبو عمرو في كل القرآن بسكون الباء وتخفيف اللام .
و : { أراكم تجهلون } أي مثل هذا من أمر الله تعالى وتجهلون خلق أنفسكم .
لما جعلوا قولهم : { فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } [ الأحقاف : 22 ] فصْلا بينهم وبينه فيما أنذرهم من كون عبادة غير الله توجب عذاب يوم عظيم ، كان الأمر في قولهم { فأتنا } مقتضياً الفور ، أي طلب تعجيله ليدل على صدقه إذ الشأن أن لا يتأخر عن إظهار صدقه لهم .
وإسناد الإتيان بالعذاب إليه مجاز لأنه الواسطة في إتيان العذاب أن يدعو الله أن يعجّله ، أو جعلوا العذاب في مكنته يأتي به متى أراد ، تهكما به إذ قال لهم إنه مرسل من الله فجعلوا ذلك مقتضياً أن بينه وبين الله تعاوناً وتطاوعاً ، أي فلا تتأخر عن الإتيان به .
وقد دل على هذا الاقتضاء قوله لهم حين نزول العذاب { بل هو ما استعجلتم به } [ الأحقاف : 24 ] فلذلك كان جوابه أنْ قال : { إنما العلم عند الله } أي علم وقت إتيان العذاب محفوظ عند الله لا يطلع عليه أحد ، فالتعريف في { العلم } للاستغراق العرفي ، أي علم المغيبات ، أو التعريف عوض عن المضاف إليه ، أي وقت العذاب . صلى الله عليه وسلم وهذا الجواب يجري على جميع الاحتمالات في معنى قولهم : { فأتِنا بما تَعِدُنا } لأن جميعها يقتضي أنه عالم بوقته .
والحصر هنا حقيقي كقوله : { لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو } [ الأعراف : 187 ] والمقصود من هذا الحصر شموله نفي العلم بوقت العذاب عن المتكلم رداً على قولهم : { فأتنا بما تعدنا } .
و { عند } هنا مجاز في الانفراد بالعلم ، أي فالله هو العالم بالوقت الذي يرسل فيه العذاب لحكمة في تأخيره .
ومعنى { وأبلغكم ما أرسلت به } أنه بُعث مبلغاً أمر الله وإنذاره ولم يُبعث للإعلام بوقت حلول العذاب كقوله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها فِيمَ أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 42 45 ] ، فقوله : { أبلغكم ما أرسلت به } جملة معترضة بين جملة { إنما العلم عند الله } وجملة { ولكني أراكم قوماً تجهلون } .
وموقع الاستدراك بقوله : { ولكني أراكم قوماً تجهلون } أنه عن قوله : { إنما العلم عند الله } ، أي ولكنكم تجهلون صفات الله وحِكمة إرساله الرسل ، فتحسبون أن الرسل وسائط لإنهاء اقتراح الخلق على الله أن يريهم العجائب ويساجلهم في الرغائب ، فمناط الاستدراك هو معمول خبر ( لكنّ ) وهو { قوماً تجهلون } ، والتقدير : ولكنكم قوم يَجهلون ، فإدخال حرف الاستدراك على ضمير المتكلم عدول عن الظاهر لئلا يبادرهم بالتجهيل استنزالاً لطائرهم ، فجعل جهلهم مظنوناً له لينظروا في صحة ما ظنه من عدمها . وإنما زيد { قوماً } ولم يقتصر على { تجهلون } للدلالة على تمكن الجهالة منهم حتى صارت من مقوّمات قوميتهم وللدلالة على أنها عمت جميع القبيلة كما قال لوط لقومه { أليس منكم رجل رشيد } [ هود : 78 ] .
وقرأ الجمهور { وأبلّغكم } بتشديد اللام . وقرأه أبو عمرو بتخفيف اللام . يقال : بلّغ الخبر بالتضعيف وأبلغه بالهمز ، إذا جعله بالغاً .