قوله تعالى : { ولقد تركناها } يعني : الفعلة التي فعلنا ، { آية } يعتبر بها . وقيل : أراد السفينة . قال قتادة : أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة . عبرةً وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ، { فهل من مدكر } يعني : متذكر متعظ معتبر خائف مثل عقوبتهم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زهير عن أبي إسحاق أنه سمع رجلاً سأل الأسود عن قوله : ( فهل من مدكر ) أو مذكر ؟ قال : سمعت عبد الله يقرؤها ( فهل من مدكر ) ، وقال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها : ( فهل من مدكر ) " دالاً " .
{ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي : ولقد تركنا قصة نوح مع قومه آية يتذكر بها المتذكرون ، على أن من عصى الرسل وعاندهم أهلكه الله بعقاب عام شديد ، أو أن الضمير يعود إلى السفينة وجنسها ، وأن أصل صنعتها تعليم
من الله لعبده{[931]} نوح عليه السلام ، ثم أبقى الله تعالى صنعتها وجنسها بين الناس ليدل ذلك على رحمته بخلقه وعنايته ، وكمال قدرته ، وبديع صنعته ، { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } ؟ أي : فهل من متذكر{[932]} للآيات ، ملق ذهنه وفكرته لما يأتيه منها ، فإنها في غاية البيان واليسر ؟
ضمير المؤنث عائد إلى { ذات ألواح ودسر } ، أي السفينة . والترك كناية عن الإِبقاء وعدم الإِزالة ، قال تعالى : { وتركنا فيها آية } في سورة الذاريات ( 37 ) ، وقال : { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } في سورة البقرة ( 17 ) ، أي أبقينا سفينة نوح محفوظة من البِلى لتكون آية يشهدها الأمم الذين أرسلت إليهم الرسلُ متى أراد واحد من الناس رؤيتها ممن هو بجوار مكانها تأييداً للرسل وتخويفاً بأول عذاب عُذبت به الأمم أمة كذبت رسولها فكانت حجة دائمة مثل ديار ثمود .
ثم أخذت تتناقص حتى بقي منها أخشاب شهدها صدر الأمة الإسلامية فلم تضمحل حتى رآها ناس من جميع الأمم بعد نوح فتواتر خبرها بالمشاهدة تأييداً لتواتر الطوفان بالأخبار المتواترة . وقد ذكر القرآن أنها استقرت على جبل الجوديّ فمنه نزل نوح ومن معه وبقيت السفينة هنالك لا ينالها أحد ، وذلك من أسباب حفظها عن الاضمحلال . واستفاض الخبر بأن الجودي جُبيل قرب قرية تسمى ( باقِرْدَى ) بكسر القاف وسكون الراء ودال مفتوحة مقصوراً من جزيرة ابن عمر قرب المَوْصل شرقيَّ دجلة .
وفي « صحيح البخاري » قال قتادة : « لقد شَهدها صدر هذه الأمة » قال تعالى في سورة العنكبوت ( 15 ) { وجعلناها آية للعالمين } وقد تقدم ذلك مفصلاً هنالك .
والآية : الحجة . وأصل الآية الأمارة التي يصطلح عليها شخصان فأكثر { قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام } [ آل عمران : 41 ] .
وإنما قال هنا { ولقد تركناها } وقال في سورة العنكبوت ( 15 ) { وجعلناها آية للعالمين } لأن ذكرها في سورة القمر وردَ بعد ذكر كيفية صنعها وحدوث الطوفان وحمل نوح في السفينة . فأخبر بأنها أُبقيت بعد تلك الأحوال ، فالآية في بقائها ، وفي سورة العنكبوت وَرَد ذِكر السفينة ابتداء فأخبر بأن الله جعلها آية إذْ أوحى إلى نوح بصنعها ، فالآية في إيجادها وهو المعبر عنه ب { جعلناها } .
وفرع على إبقاء السفينة آية استفهام عمن يتذكر بتلك الآية وهو استفهام مستعمل في معنى التحضيض على التذكر بهذه الآية واستقصاء خبرها مثل الاستفهام في قول طرفة :
إذا القوم قالوا من فتى . . . البيت
والتحضيض موجه إلى جميع من تبلغه هذه الآيات و{ من } زائدة للدلالة على عموم الجنس في الإِثبات على الأصح من القولين .
و { مُدَّكر } أصله : مُذتَكر مفتعل من الذُكر بضم الذال ، وهو التفكر في الدليل فقلبت تاء الافتعال دالاً لتقارب مخرجيهما ، وأدغم الذال في الدال لذلك ، وقرَاءة هذه الآية مروية بخصوصها عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم في سورة يوسف ( 45 ) { وادَّكَر بعد أمة } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.