( قل : يجمع بيننا ربنا ، ثم يفتح بيننا بالحق ، وهو الفتاح العليم ) . .
ففي أول الأمر يجمع الله بين أهل الحق وأهل الباطل ، ليلتقي الحق بالباطل وجهاً لوجه ، وليدعو أهل الحق إلى حقهم ، ويعالج الدعاة دعوتهم . وفي أول الأمر تختلط الأمور وتتشابك ، ويصطرع الحق والباطل ؛ وقد تقوم الشبهات أمام البراهين ؛ وقد يغشى الباطل على الحق . . ولكن ذلك كله إلى حين . . ثم يفصل الله بين الفريقين بالحق ، ويحكم بينهم حكمه الفاصل المميز الحاسم الأخير . . ( وهو الفتاح العليم ) . . الذي يفصل ويحكم عن علم وعن معرفة بين المحقين والمبطلين . .
وهذا هو الاطمئنان إلى حكم الله وفصله . فالله لا بد حاكم وفاصل ومبين عن وجه الحق . وهو لا يترك الأمور مختلطة إلا إلى حين . ولا يجمع بين المحقين والمبطلين إلا ريثما يقوم الحق بدعوته ، ويبذل طاقته ، ويجرب تجربته ؛ ثم يمضي الله أمره ويفصل بفصله .
والله سبحانه هو الذي يعلم ويقدر متى يقول كلمة الفصل . فليس لأحد أن يحدد موعدها ، ولا أن يستعجلها . فالله هو الذي يجمع وهو الذي يفتح . ( وهو الفتاح العليم ) . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يجمع بيننا ربنا} في الآخرة وأنتم {ثم يفتح} يقضي {بيننا بالحق} بالعدل {وهو الفتاح} القضاء {العليم} بما يقضى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل لهم: يجمع بيننا ربنا يوم القيامة عنده، "ثم يفتح بيننا بالحقّ"، يقول: ثم يقضي بيننا بالعدل، فيتبين عند ذلك المهتدي منا من الضالّ.
"وَهُوَ الفَتّاحُ العَلِيمُ "يقول: والله القاضي العليم بالقضاء بين خلقه، لأنه لا تخفى عنه خافية، ولا يحتاج إلى شهود تعرّفه المُحقّ من المبطل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
صلة ما تقدم من قوله: {قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} وصلة قوله: {قل لا تُسألون عما أجرمنا}؛ كأنهم قالوا لرسول الله وأصحابه: إنا لعلى هدى وأنتم على ضلال مبين. فقال عند ذلك جوابا لهم: {قل يجمع بيننا ربنا} أي يجمع بيننا [{ثم يفتح} أي يقضي {بيننا] بالحق} من منا على الهدى؟ ومن منا على الضلال؟ أنحن أم أنتم؟
{وهو الفتّاح العليم}... والمفاتحة هي المحاكمة.
ويحتمل قوله: {ثم يفتح بيننا بالحق} أي يكشف كل خفيّ منا وكل ستير وباطن، فيجعله ظاهرا بيننا ليظهر الذي هو على الحق من الباطل، والهدى من الضلال.
{وهو الفتاح العليم} أي الكاشف المُظهر، {العليم} يعلم الظاهر والباطن جميعا، والإعلان والإسرار جميعا، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فتح الله بينهم: وهو حكمه وفصله: أنه يدخل هؤلاء الجنة وأولئك النار...
أكد ما يوجب النظر والتفكر، فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب، فكيف إذا كان يوم عرض وحساب وثواب وعذاب.
{يفتح}... يمكن أن يقال بأن الفتح ههنا مجاز، وذلك لأن الباب المغلق والمنفذ المسدود، يقال فيه فتحه على طريق الحقيقة، ثم إن الأمر إذا كان فيه انغلاق وعدم وصول إليه، فإذا بينه أحد يكون قد فتحه.
{وهو الفتاح العليم} إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا مثل حكم من يحكم بما يتفق له بمجرد هواه...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الفتاح والعليم صيغتا مبالغة، وهذا فيه تهديد وتوبيخ، تقول لمن نصحته وخوفته فلم يقبل: سترى سوء عاقبة الأمر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانوا إما أن يجيبوا إلى المتاركة فيحصلوا بها المقصود عن قريب، وإما أن يقولوا: لا نترككم، وكان هذا الاحتمال أرجح، أمره أن يجيبهم على تقديره بقوله: {قل يجمع بيننا ربنا} أي في قضائه المرتب على قدره في الدنيا أو في الأخرة،
ولما كان إنصافهم منهم في غاية البعد عندهم، وكان ذلك في نفسه في غاية العظمة، أشار إليه بأداة البعد فقال: {ثم يفتح} أي يحكم {بيننا} حكماً يسهل به الطريق {بالحق} أي الأمر الثابت الذي لا يقدر أحد منا ولا منكم على التخلف عنه، وهو العدل أو الفضل من غير ظلم ولا ميل.
ولما كان التقدير: فهو الجامع القدير، عطف عليه قوله: {وهو الفتاح} أي البليغ الفتح لما انغلق، فلم يقدر أحد على فتحه.
{العليم} أي البالغ العلم بكل دقيق وجليل مما يمكن فيه الحكومات، فهو القدير على فصل جميع الخصومات...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَهُوَ الفتاح} القاضي في القضايا المنغلقة فكيف بالواضحة كإبطال الشرك وإحقاق التوحيد أو القاضي في كل قضية خفية كانت أو واضحة؛ والمبالغة على الأول في الكيف وعلى الثاني في الكم، ولعل الوجه الأول أولى، وفيه إشارة إلى وجه تسمية فصل الخصومات فتحا، وانه في الأصل لتشبيه ما حكم فيه بأمر منغلق كما يشبه بأمر منعقد في قولهم: حلال المشكلات، وقرأ عيسى {الفاتح} {السميع العليم} بما ينبغي أن يقضي به أو بكل شيء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ففي أول الأمر يجمع الله بين أهل الحق وأهل الباطل، ليلتقي الحق بالباطل وجهاً لوجه، وليدعو أهل الحق إلى حقهم، ويعالج الدعاة دعوتهم. وفي أول الأمر تختلط الأمور وتتشابك، ويصطرع الحق والباطل؛ وقد تقوم الشبهات أمام البراهين؛ وقد يغشى الباطل على الحق.. ولكن ذلك كله إلى حين.. ثم يفصل الله بين الفريقين بالحق، ويحكم بينهم حكمه الفاصل المميز الحاسم الأخير..
(وهو الفتاح العليم).. الذي يفصل ويحكم عن علم وعن معرفة بين المحقين والمبطلين.. وهذا هو الاطمئنان إلى حكم الله وفصله، فالله لا بد حاكم وفاصل ومبين عن وجه الحق، وهو لا يترك الأمور مختلطة إلا إلى حين، ولا يجمع بين المحقين والمبطلين إلا ريثما يقوم الحق بدعوته، ويبذل طاقته، ويجرب تجربته؛ ثم يمضي الله أمره ويفصل بفصله، والله سبحانه هو الذي يعلم ويقدر متى يقول كلمة الفصل، فليس لأحد أن يحدد موعدها، ولا أن يستعجلها. فالله هو الذي يجمع وهو الذي يفتح. (وهو الفتاح العليم)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إعادة فعل {قل} لِمَا عرفتَ في الجملة التي قبلها من زيادة الاهتمام بهذه المحاجات لتكون كل مجادلة مستقلة غير معطوفة فتكون هذه الجملة استئنافاً ابتدائياً. وأيضاً فهي بمنزلة البيان للتي قبلها؛ لأن نفي سؤال كل فريق عن عمل غيره يقتضي أن هنالك سؤالاً عن عمل نفسه، فبُيّن بأن الذي يسأل الناس عن أعمالهم هو الله تعالى، وأنه الذي يفصل بين الفريقين بالحق حين يجمعهم يوم القيامة الذي هم منكروه فما ظنك بحالهم يوم تَحقَّق ما أنكروه. وهنا تدرج الجدل من الإِيماء إلى الإِشارة القريبة من التصريح لما في إثبات يوم الحساب والسؤال من المصارحة بأنهم الضالّون، ويسمى هذا التدرج عند أهل الجدل بالترقّي.
والفتح: الحكم والفصل بالحق، كقوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} [الأعراف: 89] وهو مأخوذ من فتح الكوة لإِظهار ما خلفها. وجملة {وهو الفتاح العليم} تذييل بوصفه تعالى بكثرة الحكم وقوته وإحاطة العلم، وبذلك كان تذييلاً لجملة {يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق} المتضمنة حكماً جزئياً فذيل بوصف كلي.
وإنما أتبع {الفتاح} ب {العليم} للدلالة على أن حكمه عدْلُ مَحض، لأنه عليم لا تحفّ بحكمه أسباب الخطأ والجور الناشئة عن الجهل والعجز واتباع الضعف النفساني الناشئ عن الجهل بالأحوال والعواقب...
المعنى: لن نطيل معكم النقاش والحجة؛ لأننا نتكلم بالحق وأنتم تتلاعبون بالباطل، فالخلاصة معكم أنْ يفصل اللهُ بيننا وبينكم في محكمته الإلهية {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا..} أي: يوم القيامة {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ..} أي: يحكم ويقضي، وفي بعض بلادنا حتى الآن يقولون للقاضى: الفتاح {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أي: الذي يحكم عن علم كامل، ولا تَخْفى عليه خافية.
وسُمِّي الحكم فَتْحاً، لأنه يفتح شيئاً عن شيء ويحدث فُرْجة بينهما، فكأنهما كانا متشابكين، بحيث يلتبس الحق بالباطل، وكأنها معركة، فيأتي الحكم فيفضُّ هذا الاشتباك، وفَضُّ الاشتباك هذا هو الفتح، ولا يفتح بين الحق والباطل إلا الله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ربوبية الله اقتضت فصل «الطيب» من «الخبيث» و «الخالص» من «المشوب» و «الحقّ» عن «الباطل» في النهاية، ويستقرّ كلّ منهما في مكانه اللائق.
واستخدام كلمة «الربّ» في الآية أعلاه إشارةً إلى أنّ الله هو المالك والمربّي للجميع، وذلك ممّا يقتضي أن يكون برنامج مثل ذلك اليوم معدّاً، وفي الحقيقة هي إشارة لطيفة إلى إحدى دلائل «المعاد»...