ثم يتابع السياق خطاه لاستكمال مراحل الرحلة ، وأطوار النشأة . فالحياة الإنسانية التي نشأت من الأرض لا تنتهي في الأرض ، لأن عنصرا غير أرضي قد امتزج بها ، وتدخل في خط سيرها ؛ ولأن تلك النفخة العلوية قد جعلت لها غاية غير غاية الجسد الحيواني ، ونهاية غير نهاية اللحم والدم القريبة ؛ وجعلت كمالها الحقيقي لا يتم في هذه الأرض ، ولا في هذه الحياة الدنيا ؛ إنما يتم هنالك في مرحلة جديدة وفي الحياة الأخرى :
( ثم إنكم بعد ذلك لميتون . ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) . .
فهو الموت نهاية الحياة الأرضية ، وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة . وهو إذن طور من أطوار النشأة الإنسانية وليس نهاية الأطوار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم إنكم بعد ذلك} الخلق بعد ما ذكر من تمام خلق الإنسان {لميتون} عند آجالكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم إنكم أيها الناس من بعد إنشائكم خلقا آخر وتصييرناكم إنسانا سويّا ميتون وعائدون ترابا كما كنتم، ثم إنكم بعد موتكم وعودكم رفاتا باليا مبعوثون من التراب خلقا جديدا كما بدأناكم أوّل مرّة. وإنما قيل:"ثُمّ إنّكُمْ بَعْدَ ذلكَ لَمَيّتُونَ" لأنه خبر عن حال لهم يحدث لم يكن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ثم إنكم بعد ذلك لميتون} {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} قد ذكرنا فيما تقدم أن المقصود من خلق هذا العالم لم يكن الإماتة والإفناء، ولكن المقصود عاقبة، تتأمل، وتقصد، حين قلبهم من حال إلى حال، ثم لم يتركهم على حالة واحدة.
فلو كان المقصود من خلقهم الفناء والهلاك، لا غير، لكان تركهم على حال واحدة، ولم يقبلهم من حال إلى حال. فدل التحويل والتقليب من حال إلى حال على أن المقصود من الخلق العاقبة على ما ذكرنا، والله أعلم، أنه أخبر أن خلقهم، بلا عاقبة، يقصد بها، عبث حين قال: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا} (المؤمنون: 115) صير خلقهم لا للرجوع إليه عبثا، وقال في آية أخرى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها} الآية (النحل: 92) صير نقض الغزل بعد إبرامه وقوته سفها منها.
فلا جائز أن يسفه تلك المرأة بنقض غزلها بعد الإحكام والإبرام بلا نفع يكون لها، ثم هو يفعل ذلك، إذ خلق الخلق للفناء والهلاك خاصة عبث ولهو. وعلى ذلك بناء البناء في الشاهد لا لعاقبة ومنفعة، ولكن للهدم والنقض سفه ولعب. لذلك قلنا: إن خلق الخلق لا للموت خاصة، ولكن لما ذكر من قوله: {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} أي تحيون.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال نعاك إلى نفسك بقوله: {ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمِيَّتُونَ} وكلُّ ما هو آتٍ فقريب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} يعني: بعد هذه النشأة الأولى من العدم تَصيرون إلى الموت.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت إماتة ما صار هكذا -بعد القوة العظيمة والإدراك التام- من الغرائب، وكان وجودها فيه وتكرارها عليه في كل وقت قد صيرها أمراً مألوفاً، وشيئاً ظاهراً مكشوفاً، وكان عتو الإنسان على خالقه وتمرده ومخالفته لأمره نسياناً لهذا المألوف كالإنكار له، أشار إلى ذلك بقوله تعالى مسبباً مبالغاً في التأكيد: {ثم إنكم} ولما كان من الممكن ليس له من ذاته إلا العدم، نزع الجار فقال: {بعد ذلك} أي الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد في العمر في آجال متفاوتة {لميتون} وأشار بهذا النعت إلى أن الموت أمر ثابت للإنسان حيّ في حال حياته لازم له، بل ليس لممكن من ذاته إلا العدم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يتابع السياق خطاه لاستكمال مراحل الرحلة، وأطوار النشأة. فالحياة الإنسانية التي نشأت من الأرض لا تنتهي في الأرض، لأن عنصرا غير أرضي قد امتزج بها، وتدخل في خط سيرها؛ ولأن تلك النفخة العلوية قد جعلت لها غاية غير غاية الجسد الحيواني، ونهاية غير نهاية اللحم والدم القريبة؛ وجعلت كمالها الحقيقي لا يتم في هذه الأرض، ولا في هذه الحياة الدنيا؛ إنما يتم هنالك في مرحلة جديدة وفي الحياة الأخرى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون).. فهو الموت نهاية الحياة الأرضية، وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة. وهو إذن طور من أطوار النشأة الإنسانية وليس نهاية الأطوار...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إدماج في أثناء تعداد الدلائل على تفرد الله بالخلق على اختلاف أصناف المخلوقات لقصد إبطال الشرك. و {ثم} للترتيب الرتبي لأن أهميَّة التذكير بالموت في هذا المقام أقوى من أهميَّة ذكر الخَلق لأن الإخبار عن موتهم توطئة للجملة بعده وهي قوله {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} وهو المقصود. فهو كقوله: {الذي خلق الموت والحياة ليبلُوكم أيكم أحسن عملاً} [الملك: 2]. وهذه الجملة لها حكم الجملة الابتدائية وهي معترضة بين التي قبلها وبين جملة: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} [المؤمنون: 17]. ولكون {ثم} لم تفد مهلة في الزمان هنا صرح بالمهلة في قوله بعد ذلك. والإشارة إلى الخلق المبين آنفاً، أي بعد ذلك التكوين العجيب والنماء المُحكم أنتم صائرون إلى الموت الذي هو تعطيل أثر ذلك الإنشاء ثم مصيرهُ إلى الفساد والاضمحلال. وأكد هذا الخبر ب (إن) واللام مع كونهم لا يرتابون فيه لأنهم لما أعرضوا عن التدبر فيما بعد هذه الحياة كانوا بمنزلة من ينكرون أنهم يموتون.
ولك أن تسأل: كيف يحدثنا الحق- تبارك وتعالى- عن مراحل الخلق، ثم يحدثنا مباشرة عن مراحل الموت والبعث؟ نقول: جعلهما الله تعالى معا لتستقبل الحياة وفي الذهن وفي الذاكرة ما ينقض هذه الحياة، حتى لا تتعالى ولا تغفل عن هذه النهاية ولتكن على بالك، فترتب حركة حياتك على هذا الأساس. ومن ذلك أيضا قول الله تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير (1) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.. (2)} [الملك]: كأنه سبحانه ينعى إلينا أنفسنا قبل أن يخلق فينا الحياة، وقدم الموت على الحياة حتى تستقبل الحياة وتستقبل قبلها الموت الذي ينقضها فلا تغتر بالحياة، وتعمل لما بعد الموت..
وقد خاطب الحق- سبحانه وتعالى- نبيه (ص) بقوله: {إنك ميت وإنهم ميتون (30)} [الزمر]: البعض يظن أن ميت بالتشديد يعني من مات بالفعل، وهذا غير صحيح، فالميت بتشديد الياء هو ما يؤول أمره إلى الموت، وإن كان ما يزال على قيد الحياة، فكلنا بهذا المعنى ميتون، أما الذي مات بالفعل فهو ميْت -بسكون الياء-.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأن طبيعة الجسم الإنساني تنتهي إلى الانحلال والفناء، فقد قدّر الله للإنسان أجلاً معيناً لا يتعداه ضمن نظام وضعه للإنسان وللحياة في وجوده وموته، ولكن ذلك لن يكون موتاً نهائياً تنعدم الحياة فيه فلا تعود، بل إن هناك مرحلةً جديدةً لحياةٍ جديدةٍ يقدم الإنسان فيها حساب أعماله في الحياة الماضية أمام الله، من أجل حياة قادمة..