{ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا } أي : يخوضوا بالباطل ، ويلعبوا بالمحال ، فعلومهم ضارة غير نافعة ، وهي الخوض والبحث بالعلوم التي يعارضون بها الحق وما جاءت به الرسل ، وأعمالهم لعب وسفاهة ، لا تزكي النفوس ، ولا تثمر المعارف .
ولهذا توعدهم بما أمامهم من يوم القيامة فقال : { حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } فسيعلمون فيه ماذا حصلوا ، وما حصلوا عليه من الشقاء الدائم ، والعذاب المستمر .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتّىَ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدُونَ * وَهُوَ الّذِي فِي السّمآءِ إِلََهٌ وَفِي الأرْضِ إِلََهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : فذر يا محمد هؤلاء المفترين على الله ، الواصفيه بأن له ولدا يخوضوا في باطلهم ، ويلعبوا في دنياهم حتى يُلاقوا يَوْمَهُمْ الّذِي يُوعَدُونَ وذلك يوم يصليهم الله بفريتهم عليه جهنم ، وهو يوم القيامة . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ حتى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الّذِي يُوعَدونَ قال : يوم القيامة .
اعتراض بِتَفْرِيعٍ عَن تنزيه الله عما ينسبونه إليه من الولد والشركاء ، وهذا تأييس من إجداء الحجة فيهم وأن الأوْلى به متاركتهم في ضلالهم إلى أن يحِين يومٌ يلقون فيه العذاب الموعود . وهذا متحقق في أيمة الكفر الذين ماتوا عليه ، وهم الذين كانوا متصدين لمحاجّة النبي صلى الله عليه وسلم ومجادلته والتشغيب عليه مثل أبي جهل وأمية بن خلف وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة والوليد بن المغيرة والنضر بن عبد الدار ممن قُتلوا يوم بدر .
و ( اليومَ ) هنا محتمل ليوم بدر وليوم القيامة وكلاهما قد وُعدوه ، والوعد هنا بمعنى الوعيد كما دل عليه السياق .
والخَوْض حقيقته : الدخول في لُجّة الماء ماشياً ، ويطلق مجازاً على كثرة الحديث ، والأخبار والاقتصار على الاشتغال بها ، وتقدم في قوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } في سورة الأنعام ( 68 ) .
والمعنى : فأعرض عنهم في حال خَوضهم في الأحاديث ولَعِبهم في مواقع الجد حين يهزأوون بالإسلام . واللعب : المزح والهزل .
وجُزم فعل { يخوضوا ويلعبوا } بلام الأمر محذوفة وهو أولى من جعله جزماً في جواب الأمر ، وقد تكرر مثله في القرآن فالأمر هنا مستعمل في التهديد من قبيل { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] .
وقرأ الجمهور { يلاقوا } بضم الياء وبألف بعد اللام ، وصيغة المفاعلة مجاز في أنه لقاء مُحقق . وقرأه أبو جعفر { يَلْقوا } بفتح الياء وسكون اللام على أنه مضارع المُجرد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فذرهم} يقول: خل عنهم. {يخوضوا} في باطلهم.
{حتى يلاقوا يومهم} في الآخرة، {الذي يوعدون} العذاب فيه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فذر يا محمد هؤلاء المفترين على الله، الواصفيه بأن له ولدا يخوضوا في باطلهم، ويلعبوا في دنياهم "حتى يُلاقوا يَوْمَهُمْ الّذِي يُوعَدُونَ "وذلك يوم يصليهم الله بفريتهم عليه جهنم، وهو يوم القيامة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فذرهم يخوضوا ويلعبوا} هذا في الظاهر أمر بتركهم على ما هم عليه من الخوض واللعب وغيره، ومثل هذا مما لا يليق بالحكمة، إذ هو حرام في العقل. لكن يخرّج على الوعيد. ويحتمل أن يخرّج على ترك المكافآت على ما يصنعون من الاستهزاء والأفزاع من الأذى إلى اليوم الذي يلاقون، ويعاينون العذاب حتى لا تنفعهم الندامة والرجوع إلى ذلك اليوم.
أحدهما: أن الله تعالى قد أوعدهم بمواعيد شديدة، ووعظهم بمواعظ بليغة، فلم تنجع تلك المواعيد فيهم، ولا نفعهم شيء من ذلك.
والثاني: قد بيّن ما يزيل عنهم الشُّبه وما يوجب التعلّق به، أوضح لهم طريق الحق والهدى، فلم يسلكوا مسلك طريق الحق، فأوعدهم بما ذكر في ذلك اليوم ما لا تنفعهم ندامتهم في ذلك الوقت.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
في هذا دليلٌ على أنه لا ينبغي للعبد أن يَغْتَرَّ بطول السلامة، فإنَّ العواقبَ غيرُ مأمونة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذا دليل على أنّ ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب، وإعلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من المطبوع على قلوبهم الذين لا يرجعون البتة، وإن ركب في دعوتهم كل صعب وذلول، وخذلان لهم وتخلية بينهم وبين الشيطان، كقوله تبارك وتعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وإيعاد بالشقاء في العاقبة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما حصحص الحق لمعت في الموجود كله أعلام الصدق بعد بطلان شبهتهم وبيان أغلوطتهم، عرف أنهم فاعلون بوضع الأشياء في غير مواضعها فعل الخائض اللاعب فقال مسبباً عن ذلك: {فذرهم} أي اتركهم على أسوأ أحوالهم.
{يخوضوا} أي يفعلوا فعل الخائض في الماء في وضع رجله التي هي عماده فيما لا يعرفه، وقد لا يرضاه لكونه لا علم له به.
{ويلعبوا} أي يفعلوا فعل اللاعب في انهماكه في فعل ما ينقصه ولا يزيده.
{حتى يلاقوا} أي يفعلوا بتصريم أعمارهم في فعل ما لا ينفعهم فعل المجتهدين في أن يلقوا {يومهم الذي يوعدون} بوعد لا خلف فيه فيظهر فيه وعيدهم ويحق تهديدهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أعرض عنهم في حال خَوضهم في الأحاديث ولَعِبهم في مواقع الجد حين يهزؤون بالإسلام. واللعب: المزح والهزل...