{ 57 - 62 } { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
لما ذكر تعالى الذين جمعوا بين الإساءة والأمن ، الذين يزعمون أن عطاء الله إياهم في الدنيا دليل على خيرهم وفضلهم ، ذكر الذين جمعوا بين الإحسان والخوف ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } أي : وجلون ، مشفقة قلوبهم كل ذلك من خشية ربهم ، خوفا أن يضع عليهم عدله ، فلا يبقى لهم حسنة ، وسوء ظن بأنفسهم ، أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى ، وخوفا على إيمانهم من الزوال ، ومعرفة منهم بربهم ، وما يستحقه من الإجلال والإكرام ، وخوفهم وإشفاقهم يوجب لهم الكف عما يوجب الأمر المخوف من الذنوب ، والتقصير في الواجبات .
وإلى جانب صورة الغفلة والغمرة في القلوب الضالة يبرز صورة اليقظة والحذر في القلوب المؤمنة :
( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون . والذين هم بآيات ربهم يؤمنون . والذين هم بربهم لا يشركون . والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون . أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) .
ومن هنا يبدو أثر الإيمان في القلب ، من الحساسية والإرهاف والتحرج ، والتطلع إلى الكمال . وحساب العواقب . مهما ينهض بالواجبات والتكاليف .
فهؤلاء المؤمنون يشفقون من ربهم خشية وتقوى ؛ وهم يؤمنون بآياته ، ولا يشركون به . وهم ينهضون بتكاليفهم وواجباتهم . وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا . .
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } أي : هم مع{[20574]} إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح ، مشفقون من الله خائفون منه ، وجلون من مكره بهم ، كما قال الحسن البصري : إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة ، وإن المنافق جمع إساءة وأمنًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مّشْفِقُونَ * وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } .
يعني تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبّهِمْ مُشْفِقُونَ إن الذين هم من خشيتهم وخوفهم من عذاب الله مشفقون ، فهم من خشيتهم من ذلك دائبون في طاعته جادّون في طلب مرضاته . وَالّذِينَ هُمْ بآياتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ يقول : والذين هم بآيات كتابه وحججه مصدّقون . الذين هُمْ بِرَبّهِمْ لا يُشْرِكُونَ يقول : والذين يُخلصون لربهم عبادتهم ، فلا يجعلون له فيها لغيره شركا لوثَن ولا لصنم ، ولا يُراءون بها أحدا من خلقه ، ولكنهم يجعلون أعمالهم لوجهه خالصا ، وإياه يقصدون بالطاعة والعبادة دون كل شيء سواه .
هذا الكلام مقابل ما تضمنته الغمرة من قوله { فذرهم في غمرتهم } [ المؤمنون : 54 ] من الإعراض عن عبادة الله وعن التصديق بآياته ، ومن إشراكهم آلهة مع الله ، ومن شحهم عن الضعفاء وإنفاق مالهم في اللذات ، ومن تكذيبهم بالبعث . كل ذلك مما شملته الغمرة فجيء في مقابلها بذكر أحوال المؤمنين ثناء عليهم ، ألا ترى إلى قوله بعد هذا { بل قلوبهم في غمرة من هذا } [ المؤمنون : 63 ] .
فكانت هذه الجملة كالتفصيل لإجمال الغمرة مع إفادة المقابلة بأحوال المؤمنين . واختير أن يكون التفصيل بذكر المقابل لحسن تلك الصفات وقبح أضدادها تنزيها للذكر عن تعداد رذائلهم ، فحصل بهذا إيجاز بديع ، وطباق من ألطف البديع ، وصون للفصاحة من كراهة الوصف الشنيع .
وافتتاح الجملة ب { إن } للاهتمام بالخبر ، والإتيان بالموصولات للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أنهم يسارعون في الخيرات ويسابقون إليها وتكرير أسماء الموصولات للاهتمام بكل صلة من صلاتها فلا تذكر تبعاً بالعطف . والمقصود الفريق الذين اتصفوا بصلة من هذه الصلات . و ( من ) في قوله { من خشية ربهم } للتعليل .
والإشفاق : توقع المكروه وتقدم عند قوله تعالى : { وهم من خشيته مشفقون } في سورة الأنبياء ( 28 ) . وقد حذف المتوقع منه لظهور أنه هو الذي كان الإشفاق بسبب خشيته ، أي يتوقعون غضبه وعقابه .
والمراد بالآيات الدلائل التي تضمنها القرآن ومنها إعجاز القرآن . والمعنى : أنهم لخشية ربهم يخافون عقابه ، فحذف متعلق { مشفقون } لدلالة السياق عليه .
وتقديم المجرورات الثلاثة على عواملها للرعاية على الفواصل مع الاهتمام بمضمونها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر المؤمنين، فقال سبحانه: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} يعني: من عذابه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره:"إنّ الّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبّهِمْ مُشْفِقُونَ" إن الذين هم من خشيتهم وخوفهم من عذاب الله مشفقون، فهم من خشيتهم من ذلك دائبون في طاعته جادّون في طلب مرضاته.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إن الذين هم من خشية ربهم" أي خوفا من عقابه "مشفقون" والخشية: ظن لحوق المضرة، ومثلها المخافة، ونقيضها الأمنة، فالخشية انزعاج النفس بتوهم المضرة...والخشية من الله خشية من عقابه وسخطه على معاصيه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما فرغ ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك ذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم، و «الإشفاق» أبلغ التوقع والخوف، و {من}، في قوله {من خشية} هي لبيان جنس الإشفاق، والإشفاق إنما هو من عذاب الله...
بين بعده صفات من يسارع في الخيرات ويشعر بذلك وهي أربعة:
الصفة الأولى: قوله: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف، فمنهم من قال: جمع بينهما للتأكيد، ومنهم من حمل الخشية على العذاب، والمعنى: الذين هم من عذاب ربهم مشفقون، وهو قول الكلبي ومقاتل، ومنهم من حمل الإشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة، والمعنى الذين هم من خشية ربهم دائمون في طاعته، جادون في طلب مرضاته. والتحقيق أن من بلغ في الخشية إلى حد الإشفاق وهو كمال الخشية، كان في نهاية الخوف من سخط الله عاجلا، ومن عقابه آجلا، فكان في نهاية الاحتراز عن المعاصي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر أهل الافتراق، أتبعهم أهل النفاق، فكان كأنه قيل: فمن الذي يكون له الخيرات؟ فأجيب بأنه الخائف من الله، فقيل معبراً بما يناسب أول السورة من الأوصاف، بادئاً بالخشية لأنها الحاملة على تجديد الإيمان: {إن الذين هم} أي ببواطنهم {من خشية ربهم} أي الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم {مشفقون} أي دائمو الحذر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لما ذكر تعالى الذين جمعوا بين الإساءة والأمن، الذين يزعمون أن عطاء الله إياهم في الدنيا دليل على خيرهم وفضلهم، ذكر الذين جمعوا بين الإحسان والخوف، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي: وجلون، مشفقة قلوبهم كل ذلك من خشية ربهم، خوفا أن يضع عليهم عدله، فلا يبقى لهم حسنة، وسوء ظن بأنفسهم، أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى، وخوفا على إيمانهم من الزوال، ومعرفة منهم بربهم، وما يستحقه من الإجلال والإكرام، وخوفهم وإشفاقهم يوجب لهم الكف عما يوجب الأمر المخوف من الذنوب، والتقصير في الواجبات.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإلى جانب صورة الغفلة والغمرة في القلوب الضالة يبرز صورة اليقظة والحذر في القلوب المؤمنة... ومن هنا يبدو أثر الإيمان في القلب، من الحساسية والإرهاف والتحرج، والتطلع إلى الكمال. وحساب العواقب. مهما ينهض بالواجبات والتكاليف. فهؤلاء المؤمنون يشفقون من ربهم خشية وتقوى؛ وهم يؤمنون بآياته، ولا يشركون به. وهم ينهضون بتكاليفهم وواجباتهم. وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإشفاق: توقع المكروه وتقدم عند قوله تعالى: {وهم من خشيته مشفقون} في سورة الأنبياء (28). وقد حذف المتوقع منه لظهور أنه هو الذي كان الإشفاق بسبب خشيته، أي يتوقعون غضبه وعقابه...
والمعنى: أنهم لخشية ربهم يخافون عقابه، فحذف متعلق {مشفقون} لدلالة السياق عليه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الخشية خوف يشوبه تعظيم، والإشفاق خوف تشوبه محبة، وكذلك شأن المؤمن فهو يخاف الله ويعظمه، ويحبه، فهو يحب الله تعالى، ويحبه الله تعالى، وهو يعظم الله تعالى، ويخاف عذابه، فهو يستكثر أخطاءه، ويخاف العقاب، ولذلك كان من شأن أهل الإيمان أن يغلب في نفوسهم خوف العقاب على رجاء الثواب.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وكما كشف الله الستار عن الصفات المستهجنة، التي تميز أعداء الرسالة الإلهية، من الكافرين والمشركين، ومن حذا حذوهم في جميع العصور، ووصف مواقفهم، وفضح أسرارهم في هذا الربع، عاد مرة أخرى إلى الحديث عن الصفات المستحسنة، التي تميز المؤمنين المفلحين عن غيرهم من الناس...
الخشية: هي أشد الخوف... ومعنى {مشفقون} الإشفاق أيضا الخوف، وهو خوف يمدح ولا يذم، لأنه خوف يحمل صاحبه ويحثه على تجنب أسباب الخشية بالعمل الصالح، إنه إشفاق من الذنب الذي يستوجب العقوبة، كالتلميذ الذي يذاكر ويجتهد خوفا من الرسوب، وهكذا حال المؤمن يخاف هذا الخوف المثمر الممدوح الذي يجعله يأخذ بأسباب النجاة، وهذا دليل الإيمان. أما الإشفاق بعد فوات الأوان، والذي حكاه القرآن عن المجرمين: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا.. (49)} [الكهف]: فهذا إشفاق لا فائدة منه، لأنه جاء بعد ضياع الفرصة وانتهاء وقت العمل، فقد قامت القيامة ونشرت الكتب ولا أمل في النجاة إذن...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هؤلاء الذين عاشوا عظمة الله في عقولهم ووجدانهم، واستشعروا محبته في قلوبهم، وأشفقوا على أنفسهم من خشيته، لأن للعظمة بُعداً للحب يدفع للطاعة، وبعداً آخر يدعو للخوف من المعصية.. وهكذا كان هذا الإشفاق المتحرك من موقع الخوف من الله، لا يتمثل في الجانب الشعوري من حياتهم فقط، ليكون مجرد حالةٍ انفعاليةٍ طارئة، بل يتمثل في الجانب العملي من سلوكهم أيضاً، بحيث يصبح برنامجاً عملياً للحياة في خطّ القرب من طاعة الله، والبعد عن معصيته...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والخشية لا تعني مطلقاً الخوف، بل تعني الخوف المقترن بالتعظيم والتقديس. وكلمة «المشفق» مشتقّة من «الإشفاق» ومن أصل: الشفق، أي: الضياء المخالط للظلمة، وتعني الخوف الممزوج بالمحبّة والإجلال. ولكون الخشية ذات جانب عاطفي، والإشفاق ذا جانب عملي، ذكرا معاً إيضاحاً للعلّة والمعلول في الآية. فهي تعني أنّ الخوف المخلوط بتعظيم الله قد استقرّ في قلوبهم، وقد بدت علائمه في أعمالهم والتزامهم بالتعاليم الإلهيّة. أي أنّ الإشفاق مرحلة تكاملية للخشية، وهو ما يؤثّر في عمل الإنسان فيجنّبه ارتكاب الذنوب، ويدفعه إلى القيام بمسؤولياته.