{ 63-67 } { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ }
وهذا امتنان منه على عباده ، يدعوهم به إلى توحيده وعبادته والإنابة إليه ، حيث أنعم عليهم بما يسره لهم من الحرث للزروع والثمار ، فتخرج من ذلك من الأقوات والأرزاق والفواكه ، ما هو من ضروراتهم وحاجاتهم ومصالحهم ، التي لا يقدرون أن يحصوها ، فضلا عن شكرها ، وأداء حقها ، فقررهم بمنته ، فقال :
ومرة أخرى في بساطة ويسر يأخذ بقلوبهم إلى أمر مألوف لهم ، مكرر في مشاهداتهم ، ليريهم يد الله فيه ؛ ويطلعهم على المعجزة التي تقع بين أيديهم ، وعلى مرأى من عيونهم ، وهم عنها غافلون :
( أفرأيتم ما تحرثون ? أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ? لو نشاء لجعلناه حطاما ، فظلتم تفكهون : إنا لمغرمون . بل نحن محرومون ) . .
هذا الزرع الذي ينبت بين أيديهم وينمو ويؤتي ثماره . ما دورهم فيه ? إنهم يحرثون ويلقون الحب والبذور التي صنعها الله . ثم ينتهي دورهم وتأخذ يد القدرة في عملها المعجز الخارق العجيب .
تأخذ الحبة أو البذرة طريقها لإعادة نوعها . تبدؤه وتسير فيه سيرة العاقل العارف الخبير بمراحل الطريق !
الذي لا يخطئ مرة كما يخطئ الإنسان في عمله ، ولا ينحرف عن طريقه ، ولا يضل الهدف المرسوم ! إن يد القدرة هي التي تتولى خطاها على طول الطريق . . في الرحلة العجيبة . الرحلة التي ما كان العقل ليصدقها ، وما كان الخيال ليتصورها ، لولا أنها حدثت وتحدث ويراها كل إنسان في صورة من الصور ، ونوع من الأنواع . . وإلا فأي عقل كان يصدق ، وأي خيال كان يتصور أن حبة القمح مثلا يكمن فيها هذا العود وهذا الورق ، وهذه السنبلة ، وهذا الحب الكثير ? ! أو أن النواة تكمن فيها نخلة كاملة سامقة بكل ما تحتويه ? !
أي عقل كان يمكن أن يتطاول به الخيال إلى تصور هذه العجيبة . لولا أنه يراها تقع بين يديه صباح مساء ? ولولا أن هذه القصة تتكرر على مرأى ومسمع من جميع الناس ? وأي إنسان يمكنه أن يدعي أنه صنع شيئا في هذه العجيبة سوى الحرث وإلقاء البذور التي صنعها الله ?
ثم يقول الناس : زرعنا ! ! وهم لم يتجاوزوا الحرث وإلقاء البذور . أما القصة العجيبة التي تمثلها كل حبة وكل بذرة . وأما الخارقة التي تنبت من قلبها وتنمو وترتفع فكلها من صنع الخالق الزارع .
وقوله : أفَرأيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ يقول تعالى ذكره : أفرأيتم أيها الناس الحرث الذي تحرثونه أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ يقول : أأنتم تصيرونه زرعا ، أم نحن نجعله كذلك ؟ وقد :
حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، قال : حدثنا مسلم بن أبي مسلم الحرميّ ، قال : حدثنا مخلد بن الحسين ، عن هاشم ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَقُولَنّ زَرَعْتُ وَلَكِنْ قُلْ حَرَثْتُ » قال أبو هريرة ألم تسمع إلى قول الله : «أفُرأيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ءأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ؟ » .
وقف تعالى الكفار على أمر الزرع الذي هو قوام العيش ، وبين لكل مفطور أن الحراث الذي يثير الأرض ويفرق الحب ليس يفعل في نبات الزرع شيء ، وقد يسمى الإنسان زارعاً ، ومنه قوله عز وجل : { يعجب الزراع }{[10918]} [ الفتح : 29 ] لكن معنى هذه الآية : { أأنتم تزرعونه } زرعاً يتم { أم نحن } . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا تقولن زرعت ، ولكن قل حرثت » ، ثم تلا أبو هريرة رضي الله عنه هذه الآية{[10919]} .
انتقال إلى دليل آخر على إمكان البعث وصلاحية قدرة الله له بضرب آخر من ضروب الإِنشاء بعد العدم .
فالفاء لتفريع ما بعدها على جملة : { نحن خلقناكم فلولا تصدقون } [ الواقعة : 57 ] كما فرع عليه قوله : { أفرأيتم ما تمنون } [ الواقعة : 58 ] ليكون الغرض من هذه الجمل متحداً وهو الاستدلال على إمكان البعث ، فقصد تكرير الاستدلال وتعداده بإعادة جملة { أفرأيتم } وإن كان مفعول فعل الرؤية مختلفاً وسيجيء نظيره في قوله بعده { أفرأيتم الماء الذي تشربون } [ الواقعة : 68 ] وقوله : { أفرأيتم النار التي تُورُون } [ الواقعة : 71 ] .
وإن شئت جعلت الفاء لتفريع مجرد استدلال على استدلال لا لتفريع معنى معطوفها على معنى المعطوف عليه ، على أنه لما آل الاستدلال السابق إلى عموم صلاحية القدرة الإِلهية جاز أيضاً أن تكون هذه الجملة مراداً بها تمثيل بنوع عجيب من أنواع تعلقات القدرة بالإيجاد دون إرادة الاستدلال على خصوص البعث فيصح جعل الفاء تفريعاً على جملة { أفرأيتم ما تمنون } من حيث إنها اقتضت سعة القدرة الإِلهية .
ومناسبة الانتقال من الاستدلال بخلق النسل إلى الاستدلال بنبات الزرع هي التشابه البيّن بين تكوين الإنسان وتكوين النبات ، قال تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } [ نوح : 17 ] .
والقول في { أفرأيتم ما تحرثون } نظير قوله : { أفرأيتم ما تمنون } [ الواقعة : 58 ] .
و { ما تحرثون } موصول وصلة والعائد محذوف .
والحرث : شق الأرض ليزرع فيها أو يغرس .
وظاهر قوله : { ما تحرثون } أنه الأرض إلا أن هذا لا يلائم ضمير { تزرعونه } فتعين تأويل { ما تحرثون } بأن يقدر : ما تحرثون له ، أي لأجله على طريقة الحذف والإيصال ، والذي يحرثون لأجله هو النبات ، وقد دل على هذا ضمير النصب في { أأنتم تزرعونه } لأنه استفهام في معنى النفي والذي ينفَى هو ما ينبت من الحب لا بذره .