التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ} (63)

انتقال إلى دليل آخر على إمكان البعث وصلاحية قدرة الله له بضرب آخر من ضروب الإِنشاء بعد العدم .

فالفاء لتفريع ما بعدها على جملة : { نحن خلقناكم فلولا تصدقون } [ الواقعة : 57 ] كما فرع عليه قوله : { أفرأيتم ما تمنون } [ الواقعة : 58 ] ليكون الغرض من هذه الجمل متحداً وهو الاستدلال على إمكان البعث ، فقصد تكرير الاستدلال وتعداده بإعادة جملة { أفرأيتم } وإن كان مفعول فعل الرؤية مختلفاً وسيجيء نظيره في قوله بعده { أفرأيتم الماء الذي تشربون } [ الواقعة : 68 ] وقوله : { أفرأيتم النار التي تُورُون } [ الواقعة : 71 ] .

وإن شئت جعلت الفاء لتفريع مجرد استدلال على استدلال لا لتفريع معنى معطوفها على معنى المعطوف عليه ، على أنه لما آل الاستدلال السابق إلى عموم صلاحية القدرة الإِلهية جاز أيضاً أن تكون هذه الجملة مراداً بها تمثيل بنوع عجيب من أنواع تعلقات القدرة بالإيجاد دون إرادة الاستدلال على خصوص البعث فيصح جعل الفاء تفريعاً على جملة { أفرأيتم ما تمنون } من حيث إنها اقتضت سعة القدرة الإِلهية .

ومناسبة الانتقال من الاستدلال بخلق النسل إلى الاستدلال بنبات الزرع هي التشابه البيّن بين تكوين الإنسان وتكوين النبات ، قال تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } [ نوح : 17 ] .

والقول في { أفرأيتم ما تحرثون } نظير قوله : { أفرأيتم ما تمنون } [ الواقعة : 58 ] .

و { ما تحرثون } موصول وصلة والعائد محذوف .

والحرث : شق الأرض ليزرع فيها أو يغرس .

وظاهر قوله : { ما تحرثون } أنه الأرض إلا أن هذا لا يلائم ضمير { تزرعونه } فتعين تأويل { ما تحرثون } بأن يقدر : ما تحرثون له ، أي لأجله على طريقة الحذف والإيصال ، والذي يحرثون لأجله هو النبات ، وقد دل على هذا ضمير النصب في { أأنتم تزرعونه } لأنه استفهام في معنى النفي والذي ينفَى هو ما ينبت من الحب لا بذره .