{ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } فتاب اللّه على كثير ممن كانت الوقعة عليهم ، وأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين تائبين ، فرد عليهم نساءهم ، وأولادهم .
{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : ذو مغفرة واسعة ، ورحمة عامة ، يعفو عن الذنوب العظيمة للتائبين ، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة والطاعة ، والصفح عن جرائمهم ، وقبول توباتهم ، فلا ييأسنَّ أحد من مغفرته ورحمته ، ولو فعل من الذنوب والإجرام ما فعل .
( ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ، والله غفور رحيم ) . .
فباب المغفرة دائما مفتوح لمن يخطئ ثم يتوب .
إن معركة حنين التي يذكرها السياق هنا ليعرض نتائج الإنشغال عن الله ، والإعتماد على قوة غير قوته ، لتكشف لنا عن حقيقة أخرى ضمنية . حقيقة القوى التي تعتمد عليها كل عقيدة . إن الكثرة العددية ليست بشئ ، إنما هي القلة العارفة المتصلة الثابتة المتجردة للعقيدة . وإن الكثرة لتكون أحيانا سببا في الهزيمة ، لأن بعض الداخلين فيها ، التائهين في غمارها ، ممن لم يدركوا حقيقة العقيدة التي ينساقون في تيارها ، تتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة ؛ فيشيعون الإضطراب والهزيمة في الصفوف ، فوق ما تخدع الكثرة أصحابها فتجعلهم يتهاونون في ثوثيق صلتهم بالله ، إنشغالا بهذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر في الحياة .
لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة ، لا بالزبد الذي يذهب جفاء ، ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح !
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَىَ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ثم يتفضل الله بتوفيقه للتوبة والإنابة إليه من بعد عذابه الذي به عذّب من هلك منهم قتلاً بالسيف على من يشاء أي يتوب الله على من يشاء من الأحياء يقبل به إلى طاعته والله غَفُورٌ لذنوب من أناب وتاب إليه منهم ومن غيرهم منها ، رَحِيمٌ بهم فلا يعذبهم بعد توبتهم ، ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم .
{ ثم } للتراخي الرتبي ، عطف على جملة { ثم أنزل الله سكينته على رسوله إلى قوله وذلك جزاء الكافرين } [ التوبة : 26 ] . وهذا إشارة إلى إسلام هوازن بعد تلك الهزيمة فإنّهم جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين تائبين ، وسألوه أن يردّ إليهم سبيهم وغنائمهم ، فذلك أكبر منّة في نصر المسلمين إذْ أصبح الجندُ العدوُّ لهم مسلمين معهم ، لا يخافونهم بعد ذلك اليوم .
والمعنى : ثم تاب الله عليهم ، أي على الذين أسلموا منهم فقوله : { يتوب الله من بعد ذلك } دليل المعطوف بثُم ولذلك أتى بالمضارع في قوله : { يتوب الله } دون الفعل الماضي : لأنّ المقصود ما يشمل توبة هوازن وتوبة غيرهم ، للإشارة إلى إفادة تجدّد التوبة على كلّ من تاب إلى الله لا يختصّ بها هوازن فتوبته على هوازن قد عَرفها المسلمون ، فأعلموا بأنّ الله يعامل بمثل ذلك كلّ من ندم وتاب ، فالمعنى : ثم تاب الله عليهم ويتوب الله على من يشاء .
وجملة : { والله غفور رحيم } تذييل للكلام لإفادة أنّ المغفرة من شأنه تعالى ، وأنّه رحيم بعباده إن أنابوا إليه وتركوا الإشراك به .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعنى بعد القتل والهزيمة، فيهديه لدينه، {والله غفور} لما كان في الشرك {رحيم} بهم في الإسلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم يتفضل الله بتوفيقه للتوبة والإنابة إليه من بعد عذابه الذي به عذّب من هلك منهم قتلاً بالسيف على من يشاء أي يتوب الله على من يشاء من الأحياء يقبل به إلى طاعته "والله غَفُورٌ "لذنوب من أناب وتاب إليه منهم ومن غيرهم منها، "رَحِيمٌ" بهم فلا يعذبهم بعد توبتهم، ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعنى "ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء "أنه يقبل التوبة من بعد هزيمة من انهزم. وقوله "والله غفور رحيم" معناه أنه ستار للذنوب لا يفضح أحدا على معاصيه بل يسترها عليه إذا تاب منها، وهو رحيم بعباده.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ثُمَّ يَتُوبُ الله} أي يسلم بعد ذلك ناس منهم. وروي: أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل: سبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الأبل والغنم ما لا يحصى، فقال: إنّ عندي ما تروون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا: إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ هؤلاء جاؤوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً، فمن كان بيده شيء طابت نفسه أن يردّه فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه. قالوا: رضينا وسلمنا، فقال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
إعلام بأن من أسلم وتاب من الكفار الذين نجوا ذلك اليوم فإنهم مقبولون مسلمون موعودون بالغفران والرحمة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم} ثم يتوب الله تعالى بعد هذا التعذيب الذي يكون في الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام، وهم الذين لم تحط بهم خطيئات جهالة الشرك وخرافاته من جميع جوانب أنفسهم، ولم يختم على قلوبهم بالإصرار على الجحود والتكذيب، أو الجمود على ما ألفوا بمحض التقليد، والله غفور لمن يتوب عن الشرك والمعاصي، رحيم بهم. ونكتة التعبير عن هذه التوبة، وما يتلوها من المغفرة والرحمة، بصيغة الفعل المستقبل «يتوب» إعلام المؤمنين بأن ما وقع في حنين من إيمان أكثر من بقي من الذين غلبوا وعذبوا بنصر المؤمنين عليهم، سيقع مثله لكل الذين يقدمون على قتال المؤمنين بعد عودة حال الحرب بينهم، فإن من سنة الله في الاجتماع البشري أن يميز الخبيث من الطيب بمثل ذلك. وما من حرب من حروب المسلمين الدينية الصحيحة إلا وكان عاقبتها كذلك. ولما صار الإسلام جنسية، وحروب أهله أهواء دنيوية فقدوا ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن معركة حنين التي يذكرها السياق هنا ليعرض نتائج الانشغال عن الله، والاعتماد على قوة غير قوته، لتكشف لنا عن حقيقة أخرى ضمنية. حقيقة القوى التي تعتمد عليها كل عقيدة. إن الكثرة العددية ليست بشيء، إنما هي القلة العارفة المتصلة الثابتة المتجردة للعقيدة. وإن الكثرة لتكون أحيانا سببا في الهزيمة، لأن بعض الداخلين فيها، التائهين في غمارها، ممن لم يدركوا حقيقة العقيدة التي ينساقون في تيارها، تتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة؛ فيشيعون الاضطراب والهزيمة في الصفوف، فوق ما تخدع الكثرة أصحابها فتجعلهم يتهاونون في توثيق صلتهم بالله، انشغالا بهذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر في الحياة. لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة، لا بالزبد الذي يذهب جفاء، ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح!
ثم تأتي لمحة الرحمة التي يغمر بها الله سبحانه وتعالى كونه له، ويفتح الباب لكل عاص ليعود إلى طريق الإيمان فيتقبله الله، ويقول الحق تبارك وتعالى:
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}:
وهذه هي عظمة الخالق، الرحمن الرحيم، فهو يفتح الباب دائما لعباده؛ لأنه هو خالق هذا الكون، وكل من عصى يفتح الله أمامه باب التوبة، وهذه مسألة منطقية، لأن الذي يكفر والذي يعصى لا يضر الله شيئا، ولكنه يؤذي نفسه ويحاول أن يفتري على نواميس الحق، وحين يعلم العاصي أنه لا ملجأ له إلا الله، فالله عز وجل يفتح له باب التوبة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إن ما ينبغي على المسلمين أن يعتبروا به ويلزمهم أن يأخذوا منه درساً بليغاً، هو أن ينظروا إِلى الحوادث التي هي على شاكلة حادثة حنين، فلا يغتروا بكثرة العَدَد أو العُدد، فالكثرة وحدها لا تغني شيئاً، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان، ذوي الإِرادة والتصميم، حتى لو كانوا قلةً. كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إِلى انتصار على العدو وكانت الكثيرة بادئ الأمر سبب الهزيمة، لأنّها لم تنصهر بالإِيمان تماماً.فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة وتضحية، لتكون قلوبهم مركزاً للسكينة الإِلهية، وليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.