{ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } تبارك بمعنى تعالى وتعاظم ، وكثر خيره ، واتسعت صفاته ، وعظم ملكه . ولهذا ذكر سعة ملكه للسموات والأرض وما بينهما ، وسعة علمه ، وأنه بكل شيء عليم ، حتى إنه تعالى ، انفرد بعلم كثير من الغيوب ، التي لم يطلع عليها أحد من الخلق ، لا نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، ولهذا قال : { وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } قدم الظرف ، ليفيد الحصر ، أي : لا يعلم متى تجيء الساعة إلا هو ، ومن تمام ملكه وسعته ، أنه مالك الدنيا والآخرة ، ولهذا قال : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : في الآخرة فيحكم بينكم بحكمه العدل ، ومن تمام ملكه ، أنه لا يملك أحد من خلقه من الأمر شيئا ، ولا يقدم على الشفاعة عنده أحد إلا بإذنه .
وقوله - تعالى - : { وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } ثناء منه - سبحانه - على ذاته بما هو أهله .
ولفظ { تَبَارَكَ } فعل ماض ، أى تعالى الله وتعظم ، وزاد خيره وكثر إنعامه ، وهو مأخوذ من البركة - بفتح الراء - بمعنى الكثرة من كل خير . . أو من البرك - بسكون الراء - بمعنى الثبوت والدوام . . . وكل شئ ثبت ودام فقد برك .
أى : وتعالى الله وتقدس ، وثبت خيره ، وزاد إنعامه ، فهو - سبحانه - الذى له ملك السماوات والأرض ، وله ملك ما بينهما من مخلوقات أخرى لا يعلمها أحد سواه .
{ وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة } أى : وعنده وحده لا عند غيره العلم التام بوقت قيام الساعة .
فالمصدر وهو { عِلْمُ } مضاف لمفعوله وهو { الساعة } والعالم بذلك هو الله - تعالى - .
والمراد بالساعة : يوم القيامة ، وسميت بذلك لسرعة قيامها ، كما قال - تعالى - { وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ . . . } { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أى : وإليه وحده مرجعكم للحساب أو الجزاء ، وليس إلى أحد سواه - عز وجل - .
{ وتبارك } تفاعل من البركة ، أي تزيدت بركاته . و : { السماوات والأرض وما بينهما } حصر لجميع الموجودات المحسوسات . و : { علم الساعة } معناه : علم تحديد قيامها والوقف على تعيينه ، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه ، وإلا فنحن عندنا علم الساعة ، أي إنها واقعة ، وإنها ذات أهوال وبصفات ما ، والمصدر في قوله : { علم الساعة } مضاف إلى المفعول .
وقرأ أكثر القراء : » وإليه يرجعون «بالياء من تحت . وقرأ نافع وأبو عمرو : » تُرجعون «بالتاء من فوق مضمومة .
عطف على { سبحان ربّ السموات والأرض } [ الزخرف : 82 ] ، قصد منه إتباع إنشاء التنزيه بإنشاء الثناء والتمجيد .
و { تبارك } خبر مستعمل في إنشاء المدح لأن معنى { تبارك } كان متصفاً بالبَركة اتصافاً قوياً لما يدل عليه صيغة تفَاعَل من قوة حصول المشتق منه لأن أصلها أن تدل على صدور فعل من فاعلين مثل : تقاتل وتمارى ، فاستعملت في مجرد تكرر الفعل ، وذلك مثل : تسامى وتعالى .
وقد ذكر مع التنزيه أنه رب السماوات والأرض لاقتضاء الربوبية التنزيهَ عن الولد المسوق الكلام لنفيه ، وعن الشريك المشمول لقوله : { عما يصفون } [ الزخرف : 82 ] ، وذُكر مع التبريك والتعظيم أن له مُلك السماوات والأرض لمناسبة الملك للعظمة وفيْضِ الخير ، فلا يَرِيبك أنَّ { ربِّ السماوات والأرض } [ الزخرف : 82 ] مغننٍ عن { الذي له مُلك السماوات والأرض } ، لأن غرض القرآن التذكير وأغراضُ التذكير تخالف أغراض الاستدلال والجدل ، فإن التذكير يلائم التنبيه على مختلف الصفات باختلاف الاعتبارات والتعرض للاستمداد من الفضل . ثم إنّ صيغة { تبارك } تدل على أن البركة ذاتية لله تعالى فيقتضي استغناءه عن الزيادة باتخَاذِ الولد واتخاذِ الشريك ، فبهذا الاعتبار كانت هذه الجملة استدلالاً آخر تابعاً لدليل قوله : { سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون } [ الزخرف : 82 ] .
وقد تأكد انفراده بربوبية أعظم الموجودات ثلاث مرات بقوله : { رب العرش } [ الزخرف : 82 ] وقوله : { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] وقوله : { الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما } .
فكم من خصائص ونكت تنهالُ على المتدبر من آيات القرآن التي لا يحيط بها إلا الحكيم العليم .
ولما كان قوله : { الذي له ملك السموات والأرض } مفيداً التصرف في هذه العوالم مدة وجودها ووجودِ ما بينها أردفه بقوله : { وعنده علم الساعة وإليه ترجعون } للدلالة على أن له مع ملك العوالم الفانية مُلك العوالم الباقية ، وأنه المتصرف في تلك العوالم بما فيها بالتنعيم والتعذيب ، فكان قوله : { وعنده علم الساعة } توطئة لقوله : { وإليه ترجعون } وإدماجاً لإثبات البعث . وتقديم المجرور في { إليه ترجعون } لقصد التقوّي إذ ليس المخاطبون بمثبتين رُجْعَى إلى غيره فإنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً .
وأما قولهم للأصنام { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] فمرادهم أنهم شفعاء لهم في الدنيا أو هو على سبيل الجدل ولذلك أتبع بقوله : { ولا يملك الذين يَدْعُون من دونه الشفاعة } [ الزخرف : 86 ] .
وقرأ الجمهور { ترجعون } بالفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمباشرة بالتهديد . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتحتية تبعاً لأسلوب الضمائر التي قبله ، وهم متفقون على أنه مبني للمجهول .