وهنا يرد عليهم نوح ردا حكيما { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي } .
أى : قال لهم على سبيل الاستنكار لما واجهوه به : وأى علم لى بأعمال أتباعى ، إن الذى يعلم حقيقة نواياهم وأعمالهم هو الله - تعالى - أما أنا فوظيفتى قبول أعمال الناس على حسب ظواهرها .
وهؤلاء الضعفاء - الأرذلون فى زعمكم - ليس حسابهم إلا على الله - تعالى - وحده ، فهو أعلم ببواطنهم وبأحوالهم منى ومنكم { لَوْ تَشْعُرُونَ } أى : لو كنتم من أهل الفهم والشعور بحقائق الأمور لا بزيفها ، لعلمتم سلامة ردي عليكم ولكنكم قوم تزنون الناس بميزان غير عادل ، لذا قلتم ما قلتم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتّبَعَكَ الأرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاّ عَلَىَ رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قال قوم نوح له مجيبيه عن قيله لهم : إني لكم رسول أمين ، فاتقوا الله وأطيعون قالوا : أنؤمن لك يا نوح ، ونقرّ بتصديقك فيما تدعونا إليه ، وإنما اتبعك منا الأرذلون دون ذوي الشرف وأهل البيوتات قال وَمَا عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قال نوح لقومه : وما علمي بما كان أتباعي يعملون ، إنما لي منهم ظاهر أمرهم دون باطنه ، ولم أكلّف علم باطنهم ، وإنما كلفت الظاهر ، فمن أظهر حسنا ظننت به حسنا ، ومن أظهر سيئا ظننت به سيئا ، إنْ حِسابُهُمْ إلاّ عَلى ربّي لَوْ تَشْعُرُونَ يقول : إن حساب باطن أمرهم الذي خفي عني إلا على ربي لو تشعرون ، فإنه يعلم سرّ أمرهم وعلانيته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله إنْ حِسابُهُمْ إلاّ عَلى رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ قال : هو أعلم بما في نفوسهم .
وقرأ عيسى بن عمر الهمذاني «لو يشعرون » بالياء من تحت ، وإعراب قوله «وأتباعك » إما جملة في موضع الحال وإما عطف على الضمير المرفوع وحسن لك الفصل بقوله { لك }{[8956]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إنْ حِسابُهُمْ إلاّ عَلى ربّي لَوْ تَشْعُرُونَ" يقول: إن حساب باطن أمرهم الذي خفي عني إلا على ربي لو تشعرون، فإنه يعلم سرّ أمرهم وعلانيته... عن ابن جُرَيج، قوله "إنْ حِسابُهُمْ إلاّ عَلى رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ" قال: هو أعلم بما في نفوسهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم يبني جوابه على ذلك فيقول: ما عليّ إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش عن أسرارهم والشق عن قلوبهم، وإن كان لهم عمل سيء، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، وما أنا إلا منذر لا محاسب ولا مجاز {لَوْ تَشْعُرُونَ} ذلك، ولكنكم تجهلون فتنساقون مع الجهل حيث سيركم، وقصد بذلك ردّ اعتقادهم وإنكار أن يسمى المؤمن رذلاً، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسباً، فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{إن حسابهم إلا على ربي} ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله فإنه المطلع عليها. {لو تشعرون} لعلمتم ذلك ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله: {إن} أي ما {حسابهم} أي في الماضي والآتي {إلا على ربي} المحسن إليّ باتباعهم لي ليكون لي مثل أجرهم، المخفف عني أن يكلفني بحسابهم وتعرف بواطنهم، لأنه المختص بضبط جميع الأعمال والحساب عليها {لو تشعرون} أي لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم مما هو دائر على أمور الدنيا فقط، ولا نظر له إلى يوم الحساب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: أن الله هو الذي يتولّى معاملتهم بما أسلفوا وما يعملون وبحقائق أعمالهم. وهذا المقال اقتضاه قوله: {وما علمي بما كانوا يعملون} من شموله جميع أعمالهم الظاهرة والباطنة التي منها ما يحاسبون عليه وهو الأهم عند الرسول المشرّع، فلذلك لما قال: {وما علمي بما كانوا يعملون} أتبعه بقوله: {إن حسابهم إلا على ربي} على عادة أهل الإرشاد في عدم إهمال فُرصته. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم "فإذا قالوها (أي لا إله إلا الله) عصموا منّي دماءَهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، أي تحقيق مطابقة باطنهم لظاهرهم على الله...
والقصر في قوله: {إن حسابهم إلا على ربي}... أي لا يتجاوز الكون على ربي إلى الاتصاف بكونه عليَّ. وهو رد لما تضمنه كلام قومه من مطالبته بإبعاد الذين آمنوا لأنهم لا يستحقون أن يكونوا مساوين لهم في الإيمان الذي طلبه نوح من قومه...
وقوله: {لو تشعرون} تجهيل لهم ورغمٌ لغرورهم وإعجابهم الباطل.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} بالمعنى العميق لحركة المسؤولية في حياة الناس، فالرسالة رسالة الله، والخلق عباد الله، فهو الذي يتولى حسابهم، في ما كلفهم فيه من مواقع طاعته.