كما قال - تعالى - بعد ذلك : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } أى : وكل صغير من القوال أو الأفعال ، وكل كبير منهما ، فهو مكتوب عندنا ، ومسجل على صاحبه .
فقوله : { مُّسْتَطَرٌ } بمعنى مسطور ومكتتب . يقال : سطر يسطر سطرا ، إذا كتب ، واستطر مثله ، والآية الكريمة مؤكدة لما قبلها .
ومن الآيات الكثيرة التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }
{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } أي : من أعمالهم { مُسْتَطَرٌ } أي : مجموع عليهم ، ومسطر في صحائفهم ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك : سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير ، حدثني عوف بن الحارث - وهو ابن أخي عائشة لأمها - عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " يا عائشة ، إياك ومُحَقِّرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا " .
ورواه النسائي وابن ماجه ، من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني {[27828]} . وثقه{[27829]} أحمد ، وابن معين ، وأبو حاتم ، وغيرهم .
وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر {[27830]} ، ثم قال سعيد : فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي : ويحك يا سعيد بن مسلم ! لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره ، فأتاه آت في منامه فقال له : يا سليمان :
لا تَحْقِرنَّ مِنَ الذنوبِ صَغِيرا *** إن الصَّغير غدًا يعود{[27831]} كبيرا
إن الصغير ولو تقادم عهده *** عند الإله مُسَطَّرٌ تسطيرا
فازجر هواك عن البطالة لا تكن *** صعب القياد وشمرن{[27832]} تشميرا
إن المُحِبَّ إذا أحب إلههُ *** طار الفؤاد وأُلْهِم التفكيرا
فاسأل هدايتك الإله بِنِيَّة *** فَكَفَى بِرَبّكَ هاديا ونصيرا {[27833]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُلّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مّسْتَطَرٌ * إِنّ الْمُتّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ } .
يقول تعالى ذكره : وكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ من الأشياء مُسْتَطِرٌ يقول : مُثبَت في الكتاب مكتوب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ يقول : مكتوب ، فإذا أراد الله أن ينزل كتابا نَسَخَتْه السّفَرة . قوله : وكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ قال : مكتوب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، عن أبيه ، عن عمران بن حُدَير ، عن عكرِمة ، قال : مكتوب في كلّ سطر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مُسْتَطَرٌ قال : محفوظ مكتوب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أي محفوظ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : مُسْتَطَرٌ قال : مكتوب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ قال : مكتوب ، وقرأ وَما مِن دَابّةٍ فِي الأرْضِ إلاّ على اللّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرّها ومُسْتَوْدَعَها كُلّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ، وقرأ وَما مِنْ دَابّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أمْثالُكُمْ ما فَرّطْنا فِي الكِتابِ مِنْ شَيْءٍ إنما هو مفتعل من سطرت : إذا كتبت سطرا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكُلّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ من الأشياء مُسْتَطِرٌ يقول: مُثبَت في الكتاب مكتوب... عن قتادة مُسْتَطَرٌ قال: محفوظ مكتوب...
أي ليست الكتابة مقتصرة على ما فعلوه بل ما فعله غيرهم أيضا مسطور فلا يخرج عن الكتب صغيرة ولا كبيرة، وقد ذكرنا في قوله تعالى: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب}
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا كالتذييل لقوله: {وكل شيء فعلوه في الزبر} [القمر: 52] فكل صغير وكبير أعمّ من كل شيء فعلوه، والمعنى: وكل شيء حقير أو عظيم مستطر، أي مكتوب مسطور، أي في علم الله تعالى أي كل ذلك يعلمه الله ويحاسب عليه، فمستطر: اسم مفعول من سطر إذا كتب سطوراً قال تعالى: {وكتاب مسطور} [الطور: 2].
وهذا كقوله تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] وقوله: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} [سبأ: 3].
فالصغير: مستعار للشيء الذي لا شأن له ولا يَهتم به الناس ولا يؤاخذ عليه فاعله، أو لا يؤاخذ عليه مؤاخذة عظيمة. والكبير: مستعار لضده ويدخل في ذلك ما له شأن من الصلاح ومَا له شأن من الفساد وما هو دون ذلك، وذلك أفضل الأعمال الصالحة وما دونه من الأعمال الصالحة، وكذلك كبائر الإِثم والفواحش وما دونها من اللمم والصغائر.
والمستطر: كناية عن علم الله به وذلك كناية عن الجزاء عليه مكان ذلك جامعاً للتبشير والإِنذار.