{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } فتجازون بأعمالكم ، حسنها وسيئها . قال تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى* أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى* ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى* أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى }
ثم بين - سبحانه - حالهم بعد أن يكونوا خلقاً آخر فقال : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } .
أى : ثم إنكم بعد ذلك الذى ذكره - سبحانه - لكم من أطوار خلقكم تصيرون أطفالاً ، فصبياناً فغلماناً ، فشباناً ، فكهولاً ، فشيوخاً . . . ثم مصيركم بعد ذلك كله ، أو خلال ذلك كله ، إلى الموت المحتوم الذى لا مفر لكم منه ، ولا مهرب لكم عنه . ثم إنكم يوم القيامة تبعثون من قبوركم للحساب والجزاء .
وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة تذكر الإنسان بأطوار نشأته . وبحلقات حياته : وبنهاية عمره . وبحتمية بعثه .
وفى هذا التذكير ما فيه من الاعتبار للمعتبرين ، ومن الاتعاظ للمتعظين ، ومن البراهين الساطعة على وحدانية الله - تعالى - .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ * ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم إنكم أيها الناس من بعد إنشائكم خلقا آخل وتصييرناكم إنسانا سويّا ميتون وعائدون ترابا كما كنتم ، ثم إنكم بعد موتكم وعودكم رفاتا باليا مبعوثون من التراب خلقا جديدا كما بدأناكم أوّل مرّة . وإنما قيل : ثُمّ إنّكُمْ بَعْدَ ذلكَ لَمَيّتُونَ لأنه خبر عن حال لهم يحدث لم يكن . وكذلك تقول العرب لمن لم يمت : هو مائت وميت عن قليل ، ولا يقولون لمن قد مات مائت ، وكذلك هو طَمِع فيما عندك إذا وصف بالطمع ، فإذا أخبر عنه أنه سيفعل ولم يفعل قيل هو طامع فيما عندك غدا ، وكذلك ذلك في كلّ ما كان نظيرا لما ذكرناه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم إنكم} بعد الموت {يوم القيامة تبعثون}، يعني: تحيون بعد الموت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 15]
يقول تعالى ذكره: ثم إنكم أيها الناس من بعد إنشائكم خلقا آخر وتصييرناكم إنسانا سويّا ميتون وعائدون ترابا كما كنتم، ثم إنكم بعد موتكم وعودكم رفاتا باليا مبعوثون من التراب خلقا جديدا كما بدأناكم أوّل مرّة. وإنما قيل:"ثُمّ إنّكُمْ بَعْدَ ذلكَ لَمَيّتُونَ" لأنه خبر عن حال لهم يحدث لم يكن.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أي تحشرون إلى الموقف والحساب والجزاء بعد أن كنتم أمواتا، ولا يدل ذلك على أنه لا يحييهم في القبور للمسألة، لأن قوله: إنه يميتهم عند فناء آجالهم ويبعثهم يوم القيامة، لا يمنع من أن يحييهم فيما بين ذلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فعند ذلك يتصل الحسابُ والعقابُ، والسؤالُ والعتابُ، ويتبين المقبولُ من المردودِ، والموصولُ من المهجور. ويومُ القيامة يومٌ خوَّفَ به العالَم حتى لو قيل للقيامة: ممن تخافين؟ لقالت من القيامة. وفي القيامة ترى الناسَ سُكَارَى حَيَارَى لا يعرفون أحوالَهم، ولا يتحققون بما تؤول إليه أمورهم، إلى أن يتبيَّنَ لكلِّ واحدٍ أَمْرُه؛ خَيْرُه وشَرُّه: فيثقل بالخيرات ميزانُه، أو يخف عن الطاعاتِ أو يخلو ديوانهُ. وما بين الموت والقيامة: فإِمَّا راحاتٌ مُتَّصِلَة، أو آلام وآفاتٌ غير منفصلة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة، والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه: دليلين أيضاً على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع.
فإن قلت: فإذاً لا حياة إلا حياة الإنشاء وحياة البعث. قلت: ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك وطويت ذكر ثلثه لم يكن دليلاً على أن الثلث ليس عندك. وأيضاً فالغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة: الإنشاء والإماتة والإعادة، والمطوي ذكرها من جنس الإعادة.
السؤال الأول: ما الحكمة في الموت، وهلا وصل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الإنعام أبلغ؟
والجواب: هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله، يبين ذلك أنه لو قيل لمن يصلي ويصوم إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال، فإنه لا يأتي بذلك الفعل إلا لطلب الجنة، فلا جرم أخره الله تعالى وبعده بالإماتة ثم الإعادة ليكون العبد عابدا لربه بطاعته لا لطلب الانتفاع.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
فإن قلت: الموت مقطوع به عند كل أحد، والبعث قد أنكرته طوائف واستبعدته وإن كان مقطوعاً به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجيء السمع به فوجب القطع به، فما بال جملة الموت جاءت مؤكدة بأن وباللام ولم تؤكد جملة البعث بأن؟ فالجواب: أنه بولغ في تأكيد ذلك تنبيهاً للإنسان أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه، فإن مآله إليه فكأنه أكدت جملته ثلاث مرار لهذا المعنى، لأن الإنسان في الحياة الدنيا يسعى فيها غاية السعي، ويؤكد ويجمع حتى كأنه مخلد فيها فنبه بذكر الموت مؤكداً مبالغاً فيه ليقصر، وليعلم أن آخره إلى الفناء فيعمل لدار البقاء، ولم تؤكد جملة البعث إلاّ بأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكاراً وإنه حتم لا بد من كيانه فلم يحتج إلى توكيد ثان..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم هو البعث المؤذن بالطور الأخير من أطوار تلك النشأة. وبعده تبدأ الحياة الكاملة، المبرأة من النقائص الأرضية، ومن ضرورات اللحم والدم، ومن الخوف والقلق، ومن التحول والتطور لأنها نهاية الكمال المقدر لهذا الإنسان. ذلك لمن يسلك طريق الكمال. الطريق الذي رسمه المقطع الأول في السورة. طريق المؤمنين فأما من ارتكس في مرحلة الحياة الدنيا إلى درك الحيوان، فهو صائر في الحياة الأخرى إلى غاية الارتكاس. حيث تهدر آدميته، ويستحيل حصبا من حصب جهنم، وقودا للنار، التي وقودها الناس والحجارة. والناس من هذا الصنف هو والحجارة سواء!...
ومع ذلك لما تكلم عن البعث وهو محل الشك والإنكار قال سبحانه: {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون}: ولم يقل: لتبعثون كما قال {لميتون} فكيف يؤكد ما فيه تصديق وتسليم، ولا يؤكد ما فيه إنكار؟. قالوا: نعم، لأن المتكلم هو الله تعالى، الذي يرى غفلتكم عن الموت رغم وضوحه، فلما غفلتم عنه كنتم كالمكذبين به المنكرين له، لذلك أكد عليه، لذلك يقال:"ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت" فالكل يعلم الموت ويعانيه، لكن يبعده عن نفسه، ولا يتصوره في حقه. أما البعث والقيامة فأدلتها واضحة لا يصح لأحد أن ينكرها، لذلك جاءت دون توكيد: {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} فأدلة البعث أوضح من أن يقف العقل فيها أو ينكرها، لذلك سأطلقها إطلاقا دون مبالغة في التوكيد، أما من يتشكك فيه أو ينكره، فهذا نؤكد له الكلام، فانظر إلى بصر الحق- سبحانه وتعالى- بعقليات خلقه وبنفوسهم وملكاتهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من أجل أن لا يعتقد المرء بأنّ الموت نهاية كلّ شيء، تقول الآية: (ثمّ إنّكم يوم القيامة تبعثون) أي إنّ خلقكم بهذه الصورة المدهشة لم يكن عبثاً أو لتعيشوا أيّاماً معدودات، فتضيف الآية أنّكم ستبعثون يوم القيامة في مستوى أعلى وفي عالم أوسع.