ثم ختم - سبحانه - تلك المحاجة بقوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } .
أى فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات والحجج الواضحات التى أخبرناك بها وقصصناها عليك ، فأنذرهم بسوء العاقبة ، وأخبرهم أن الله - تعالى - عليم بهم ، وبما يقولونه ويفعلونه من فساد في الأرض . وسيعاقبهم على ذلك العقاب الأليم .
فقوله { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } قائم مقام جواب الشرط ، أى فإن تولوا فأخبرهم بأنهم مفسدون وأن لهم سوء العقبى لأن الله عليم بإفسادهم ولن يتركهم بدون عقوبة .
وهذه الجملة الكريمة تتضمن فى ذاتها تهديدا شديداً لهؤلاء المجادلين بالباطل فى شأن عيسى - عليه السلام - ولكل من أعرض عن الحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم لأن الله - تعالى - ليس غافلا عن إفساد المفسدين ، وإنما يأخذهم أخذ عيز مقتدر .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد بينت بأسلوب معجز حكيم جانبا من قصة آل عمران فحدثتنا عما كان من امرأته أم مريم ، وما قالته عندما حملت بها ، وما قالته بعد ولادتها ، وما أكرم الله به مريم من رعايتها بالتربية الحسنة وبالرزق الحسن ، ثم ما كان من شأن زكريا وتضرعه إلى الله أن يهبه الذرية الصالحة واستجابة الله له وتبشيره بولادة يحيى ، ثم ما كان من شأن مريم وتبشيرها باصطفاء الله لها وأمرها بالمداومة على طاعته ، ثم تبشيرها بعيسى وتعجبها لذلك والرد عليها بما يزيل هذا العجب ، ثم ما كان من شأن عيسى - عليه السلام - وما وصفه به من صفات كريمة ، وما منحه من معجزات باهرة تشهد بصدقه فى رسالته ، مما جعل الحواريين يؤمنون به ، أما الأكثرون من بنى إسرائيل فقد كفروا به ودبروا له المكايد فأنجاه الله من مكرهم ورفعه إليه وطهره منهم .
ثم بين القرآن أن عيسى عبد الله ورسوله ، وأن هذا هو الحق ، وقد تحدى الرسول صلى الله عليه وسلم كل من نازعه فى ذلك بالمباهلة ولكن المجادلين نكصوا على أعقابهم ، فثبت صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه .
وبذلك يكون القرآن قد بين الحق فى شأن عيسى - عليه السلام - بيانا يهدى القلوب ويقنع العقول ويحمل النفوس على التدبر والاعتبار ، وإخلاص العبادة لله رب العالمين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فإنْ تَوَلّوْا}: فإن أدبر هؤلاء الذين حاجوك في عيسى عما جاءك من الحقّ من عند ربك في عيسى وغيره، من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان، فأعرضوا عنه، ولم يقبلوه {فإنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ}: فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه، وذلك هو إفسادهم، يقول تعالى ذكره: فهو عالم بهم وبأعمالهم، يحصيها عليهم ويحفظها حتى يجازيهم عليها جزاءهم...
فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين الوفد من نصارى نجران بالقضاء الفاصل والحكم العادل، أمره إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله، وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأن عيسى عبده ورسوله وأبوا إلا الجدل والخصومة أن يدعوهم إلى الملاعنة، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم انخذلوا، فامتنعوا من الملاعنة ودعوا إلى المصالحة.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{فإنْ تَوَلّوْا}: أعرضوا عن الإيمان... {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}: الذّين يعبدون غير اللّه ويدعون النّاس إلى عبادة غيره...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
التولي عن الحق: هو اعتقاد خلافه بعد ظهوره، لأنه كالإدبار عنه بعد الإقبال. وتولى عنه خلاف تولى إليه. والأصل واحد. فأصل التولي: كون الشيء يلي غيره من غير فصل بينه وبينه، فقيل تولى عنه أي زال عن جهته. "فإن الله عليم بالمفسدين": إنما خص المفسدين بأنه عليم بهم على جهة التهديد لهم، والوعد بما يعلمه مما وقع من إفسادهم كما يقول القائل أنا أعلم بسر فلان وما يجري إليه من الفساد. والإفساد إيقاع الشيء على خلاف ما توجبه الحكمة، وهو ضد الإصلاح، لأنه إيقاع الشيء على مقدار ما توجبه الحكمة. والفرق بين الفساد والقبيح: أن الفساد تغيير عن المقدار الذي تدعو إليه الحكمة بدلالة أن نقيضه الصلاح، فاذا قصر عن المقدار أو أفرط لم يصلح، فاذا كان على المقدار صلح، وليس كذلك القبيح، لأنه ليس فيه معنى المقدار. وإنما القبيح ما تزجر عنه الحكمة كما أن الحسن ما تدعوا إليه الحكمة...
{فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين}: فإن تولوا عما وصفت من أن الله هو الواحد، وأنه يجب أن يكون عزيزا غالبا قادرا على جميع المقدورات، حكيما عالما بالعواقب والنهايات مع أن عيسى عليه السلام ما كان عزيزا غالبا، وما كان حكيما عالما بالعواقب والنهايات. فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى الله، فإن الله عليم بفساد المفسدين، مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادر على مجازاتهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فإن تولوا} ولم يجيبوا الدعوة إلى المباهلة ولم يقبلوا عقيدة التوحيد الخالص {فإن الله عليم بالمفسدين}: لعقائد الناس بإصرارهم على الباطل تقليدا محضا لا برهان يؤيده. ولا بصيرة تعضده، وإفساد العقائد إفساد للعقل وهو رأس كل إفساد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنما الجديد هو وصف الذين يتولون عن الحق بأنهم مفسدون، وتهديدهم بأن الله عليم بالمفسدين..
والفساد الذي يتولاه المعرضون عن حقيقة التوحيد فساد عظيم. وما ينشأ في الأرض الفساد -في الواقع- إلا من الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة. لا اعتراف اللسان. فاعتراف اللسان لا قيمة له. ولا اعتراف القلب السلبي. فهذا الاعتراف لا ينشئ آثاره الواقعية في حياة الناس.. إنما هي الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة بكل آثارها التي تلازمها في واقع الحياة البشرية.. وأول ما يلازم حقيقة التوحيد أن تتوحد الربوبية، فتتوحد العبودية.. لا عبودية إلا لله. ولا طاعة إلا لله. ولا تلقي إلا عن الله. فليس إلا لله تكون العبودية. وليس إلا لله تكون الطاعة. وليس إلا عن الله يكون التلقي.. التلقي في التشريع، والتلقي في القيم والموازين، والتلقي في الآداب والأخلاق. والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية.. وإلا فهو الشرك أو الكفر. مهما اعترفت الألسنة، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشئ آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول.
إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله، إلا أن يكون هناك إله واحد، يدبر أمره: و (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا).. وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية: تعبد العبيد؛ والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم. فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية؛ وأقام نفسه للناس إلها من دون الله.
وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو. عندما يتعبد الناس الناس. عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته؛ وأن له فيهم حق التشريع لذاته؛ وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته. فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون: (أنا ربكم الأعلى).. والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به.. وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أمّا الدرس الذي نستفيده من ذلك كلّه، فهو العمل على توظيف الجانب الإيماني، بعد ممارسة الجوانب العملية والفكرية، في الحوار الهادئ العميق بين الإسلام وخصومه، انطلاقاً من الفكرة الحاسمة الواقعية التي تقول: إنَّ على الداعية أن لا يهمل أيّ عنصر من عناصر التأثير على الآخرين في إيصالهم إلى الحقيقة، أو في الإيحاء إليهم بالاطمئنان إلى قوّة هذه الحقيقة.. حتّى ليقف الإنسان في أشدّ المواقف حراجة في مجالات التحدّي لثقته بأنَّ الدعوة في المستوى القوي لمواجهة التحدّي بأقوى منه...