ثم نهاهم عن أفحش الرذائل التى كانت منتشرة فيهم فقال لهم : { أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين . . . } .
والجبلة : الجماعة الكثيرة من الناس الذين كانوا من قبل قوم شعيب . والمقصود بهم أولئك الذين كانوا ذوى قوة كأنها الجبال فى صلابتها ، كقوم هود وأمثالهم ممن اغتروا بقوتهم ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .
قال القرطبى : وقوله : { واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين } .
الجبلة : هى الخليقة . ويقال : جبل فلان على كذا ، أى : خلق ، فالخُلُق جِبِلة وجُبُلة - بكسر الجيم والباء وضمهما - والجبلة : هو الجمع ذو العدد الكثير من الناس ، ومنه قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً . . . } والمعنى : قال شعيب - عليه السلام - لقومه ناصحا ومرشدا : يا قوم ، أوفوا الكيل أى : أتموه { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين } الذين يأكلون حقوق غيرهم عن طريق التطفيف فى الكيل والميزان .
ثم ذكرهم بأحوال السابقين ، وبأن الله - تعالى - هو الذى خلقهم وخلق أولئك السابقين فقال : { واتقوا الذي خَلَقَكُمْ } من ماء مهين . وخلق - أيضا - الأقوام السابقين ، الذين كانوا أشد منكم قوة وأكثر جمعا . والذين أهلكهم - سبحانه - بقدرته بسبب إصرارهم على كفرهم وبغيهم .
واستمع قوم شعيب إلى تلك النصائح الحكيمة . ولكن لم يتأثروا بها ، بل اتهموا نبيهم فى عقله وفى صدقه ، وتحده فى رسالته فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - : { إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } .
و { الجبلة } القرون ، والخليقة الماضية وقال الشاعر :
والموت أعظم حادث . . . مما يمر على الجبلَّه{[4]}
وقرأ جمهور الناس «والجِبِلة » بكسر الجيم والباء ، وقرأ ابن محيصن والحسن بخلاف «والجُبُلة » بضمها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واتقوا} يقول: واخشوا أن يعذبكم في الدنيا {الذي خلقكم و} خلق {والجبلة} يعني: الخليقة {الأولين} يعني: الأمم الخالية الذين عذبوا في الدنيا قوم نوح وصالح، وقوم لوط.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَاتّقُوا" أيها القوم عقاب ربكم "الّذِي خَلَقَكُمْ"، وَ خلق "الجبِلّةَ الأوّلِينَ "يعني بالجبِلّة: الخلق الأوّلين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي اتقوا نقمة الذي خلقكم، وخلق الجبلة الأولين أي كيف عذبهم، وانتقم منهم بظلمهم، والجبلة هي الخليقة، يقال: جبل أي خلق.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{الأَوَّلِينَ} يعني الأمم الخالية.
والمراد أنه المتفضل بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما وعظهم فابلغ في وعظهم بما ختمه بالنهي عن الفساد، خوفهم من سطوات الله تعالى ما أحل بمن هو أعظم منهم فقال: {واتقوا الذي خلقكم} أي فإعدامكم أهون شيء عليه، وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله: {والجبلة} أي الجماعة والأمة {الأولين} الذين كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة كأنها الجبال قوة وصلابة لا سيما قوم هود عليه السلام الذين هم عرب مثلكم، وقد بلغت بهم الشدة في أبدانهم، والصلابة في جميع أركانهم، إلى أن قالوا {من أشد منا قوة} [فصلت: 15] وقد بلغكم ما أنزل بهم سبحانه من بأسه، لأن العرب أعلم الناس بأخبارهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الواو عاطفة، أي خلقكم وخلق الجبلة الأولين، والجبلة الجماعات المجبولة على سير وأخلاق سبقوا إليها، سواء أكانت خيرا أم كانت شرا، والسياق يقول اتقوا الله، واملئوا قلوبكم بالخوف منه، أنتم والذين سبقوكم، وجبلوا على ما سلكوه واتبعوه، والأمر بالتقوى لهم، ولمن جبلوا عليه، ليصادرهم في دعواهم، إنهم يتبعون ما كان يعبد آباؤهم، فالتقوى مطلوبة منكم، وممن سبقوكم، وإن كانوا يجأرون بالشرك فإنهم مطالبون بالتقوى كما تطالبون.
فمعنى: {واتقوا الذي خلقكم} أي: احذروا جبروته؛ لأنه خلقكم، وضمن لكم الأرزاق، وضمن لكم قضاء الحاجات، حتى العاجز عن الحركة سخر له القادر، وجعل للغني شرطا في إيمانه أن يعطي جزءا من سعيه للفقير، ويوصله إليه وهو مطمئن.
ومعنى: {والجبلة الأولين} الجبلة من الجبل، وكان له دور في حياة العربي، وعليه تدور الكثير من تعبيراتهم، ففيه صفات الفخامة والعظمة والرسوخ والثبات، فاشتقوا من الجبل (الجبلة) وتعني الملازمة والثبات على الشيء. ومعنى: {والجبلة الأولين} أي: الناس السابقين الذين جبلوا على العناد وتكذيب الرسل، فالله خلقكم وخلقهم، وقد رأيتم ما فعل الله بهم لما كذبوا رسله، لقد كتب الله النصر لرسله والهزيمة لمن كذبهم، فهؤلاء الذين سبقوكم من الأمم جبلوا على التكذيب، وكانوا ثابتين عليه لم يزحزحهم عن التكذيب شيء، فاحذروا أن تكونوا مثلهم فينزل بكم ما نزل بهم.