وقوله - سبحانه - { إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً . إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } تعليل لما أصابه من سوء . أى : إن هذا الشقى كان فى الدنيا فرحا بطرا بين أهله ، لا يفكر فى عاقبة ، ولا يعمل حسابا لغير ملذاته وشهواته ، وإنه فوق ذلك { ظن } أى : أيقن أنه لن يرجع إلى ربه يوم القيامة ، ليحاسبه على أعماله ، ويجازيه بما يستحقه من جزاء .
قال القرطبى : قوله { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } أى : لن يرجع حيا مبعوثا فيحاسب . ثم يثاب أو يعاقب . يقال : حار فلان يحور إذا رجع ، ومنه قول لبيد :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه . . . يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
فالحور فى كلام العرب : ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم إنى أعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْر " يعنى : من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة . .
وأمام هذا المشهد التعيس يكر السياق راجعا إلى ماضي هذا الشقي الذي انتهى به إلى هذا الشقاء . .
( إنه كان في أهله مسرورا . إنه ظن أن لن يحور ) . .
وذلك كان في الدنيا . . نعم كان . . فنحن الآن - مع هذا القرآن - في يوم الحساب والجزاء وقد خلفنا الأرض وراءنا بعيدا في الزمان والمكان !
( إنه كان في أهله مسرورا ) . . غافلا عما وراء اللحظة الحاضرة ؛ لاهيا عما ينتظره في الدار الآخرة ، لا يحسب لها حسابا ولا يقدم لها زادا . .
وقوله : إنّهُ كانَ فِي أهْلِهِ مَسْرُورايقول تعالى ذكره : إنه كان في أهله في الدنيا مسرورا ، لما فيه من خلافه أمرَ الله ، وركوبه معاصيَه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّهُ كانَ فِي أهْلِهِ مَسْرُورا : أي في الدنيا .
وقوله : { إنه كان في أهله مسروراً } مستعمل في التعجيب من حالهم كيف انقلبت من ذلك السرور الذي كان لهم في الحياة الدنيا المعروف من أحوالهم بما حكي في آيات كثيرة مثل قوله : { أولي النعمة } [ المزمل : 11 ] وقوله : { وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين } [ المطففين : 31 ] فآلوا إلى ألم النار في الآخرة حتى دَعوا بالثبور .
وتأكيد الخبر من شأن الأخبار المستعملة في التعجيب كقول عمر لحذيفة بن اليمان : « إنَّك عَلَيه لجريء » ( أي على النبي صلى الله عليه وسلم } . وهذه الجملة معترضة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إنه كان في أهله في الدنيا مسرورا، لما فيه من خلافه أمرَ الله، وركوبه معاصيَه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معناه إنه اقتطعه السرور بأهله عما يلزمه أن يقدمه. فهو ذم له بهذا المعنى، ولو لم يكن إلا السرور بأهله لم يذم عليه وقيل: معناه إنه كان في أهله مسرورا بمعاصي الله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
أي: لم يحزن للتقصير في أوامر الله تعالى، ولم يتعب، ولم ينصب في العمل بطاعة الله، ذكره القفال. ويقال: كان في أهله مسرورا، أي: راكبا هواه، متبعا شهوته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فِى أَهْلِهِ} فيما بين ظهرانيهم، أو معهم، على أنهم كانوا جميعاً مسرورين، يعني أنه كان في الدنيا مترفا بطرا مستبشراً كعادة الفجار الذين لا يهمهم أمر الآخرة ولا يفكرون في العواقب. ولم يكن كئيباً حزيناً متفكراً كعادة الصلحاء والمتقين وحكاية الله عنهم {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26]...
(أحدهما): أنه كان في أهله مسرورا أي منعما مستريحا من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والصوم والجهاد، مقدما على المعاصي، آمنا من الحساب والثواب والعقاب، لا يخاف الله ولا يرجوه، فأبدله الله بذلك السرور الفاني غما باقيا لا ينقطع، وكان المؤمن الذي أوتي كتابه بيمينه متقيا من المعاصي، غير آمن من العذاب، ولم يكن في دنياه مسرورا في أهله، فجعله الله في الآخرة مسرورا فأبدله الله تعالى بالغم الفاني سرورا دائما لا ينفد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأمام هذا المشهد التعيس يكر السياق راجعا إلى ماضي هذا الشقي الذي انتهى به إلى هذا الشقاء...
. وذلك كان في الدنيا.. نعم كان.. فنحن الآن -مع هذا القرآن- في يوم الحساب والجزاء وقد خلفنا الأرض وراءنا بعيدا في الزمان والمكان! (إنه كان في أهله مسرورا).. غافلا عما وراء اللحظة الحاضرة؛ لاهيا عما ينتظره في الدار الآخرة، لا يحسب لها حسابا ولا يقدم لها زادا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مستعمل في التعجيب من حالهم كيف انقلبت من ذلك السرور الذي كان لهم في الحياة الدنيا المعروف من أحوالهم...
فآلوا إلى ألم النار في الآخرة حتى دَعوا بالثبور. وتأكيد الخبر من شأن الأخبار المستعملة في التعجيب كقول عمر لحذيفة بن اليمان: « إنَّك عَلَيه لجريء» أي على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الجملة معترضة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وتبيّن الآية التالية علّة تلك العاقبة المخزية: (إنّه كان في أهله مسروراً). سروراً ممتزجاً بالغرور...
فالسرور المقصود في الآية، هو ذلك السرور المرتبط بشدّة بالدنيا والمنسي لذكر الآخرة. وبديهي فالسرور والارتياح ليس مذموما بذاته، ولكنّ السرور المذموم هو الذي يغفل فيه الإنسان عن ذكر مولاه عزّ وجلّ، ويغرق به في بحر شهواته الموصل إلى التيه والضلالة والجهل. أمّا سرور المؤمن بلطف اللّه ونعمائه، وبشاشته عند مصاحبة إخوانه، فما أحلاه وأزكاه...