وهنا يرد عليهم المنادى وأعوانه بقولهم : { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } .
أى : قال المنادى وأعوانه لإِخوة يوسف الذين نفوا عن أنفسهم تهمة السرقة نفياً تاماً .
إذاً فما جزاء وعقاب هذا السارق لصواع الملك في شريعتكم ، إن وجدنا هذا الصواع في حوزتكم ، وكنتم كاذبين في دعواكم أنكم ما كنتم سارقين .
لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة ، قال لهم إخوة يوسف : { تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي : لقد تحققتم وعلمتم منذ{[15230]} عرفتمونا ، لأنهم{[15231]} شاهدوا منهم سيرة حسنة ، أنَّا ما جئنا للفساد في الأرض ، وما كنا سارقين ، أي : ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة ، فقال{[15232]} لهم الفتيان : { فَمَا جَزَاؤُهُ } أي : السارق ، إن كان فيكم { إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } أي : أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه{[15233]} ؟ { قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }
وهكذا كانت شريعة إبراهيم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه . وهذا هو الذي أراد يوسف ، عليه السلام ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، أي فتشها قبله ، تورية ، { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه ؛ ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه ، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة .
وقوله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي : لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر ، قاله الضحاك وغيره .
وإنما قيض الله له أن{[15234]} التزم له إخوته بما التزموه ، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ؛ ولهذا مدحه تعالى فقال : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } كما قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ المجادلة : 11 ] .
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم ، حتى ينتهي إلى الله عز وجل . وكذا رَوَى عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذي علم عليم [ فقال ابن عباس : بئس ما قلت ، الله العليم ، وهو فوق كل عالم ]{[15235]} وكذا روى سماك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم . وهكذا{[15236]} قال عكرمة .
وقال قتادة : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بُدئ وتعلمت العلماء ، وإليه يعود ، وفي قراءة عبد الله " وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال أصحاب يوسف لإخوته : فما ثواب السّرَق إن كنتم كاذبين في قولكم ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَما كُنّا سارِقِينَ قالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ . يقول جلّ ثناؤه : وقال إخوة يوسف : ثواب السّرَق مَنْ وُجد في متاعه السّرَق فهو جزاؤه ، يقول : فالذي وجد ذلك في رحله ثوابه بأن يُسْلَم بسرقته إلى من سرق منه حتى يسترقّه . كذلكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ يقول : كذلك نفعل بمن ظلم ففعل ما ليس له فعله من أخذه مال غيره سَرَقا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَهُوَ جَزَاؤُهُ أي سُلّم به ، كذلكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ : أي كذلك نصنع بمن سَرَق منا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزّاق ، عن معمر ، قال : بلغنا في قوله : قالُوا فمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أخبروا يوسف بما يُحْكَم في بلادهم أنه من سَرَق أُخِذ عبدا ، فقالوا : جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : قالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ تأخذونه فهو لكم .
ومعنى الكلام : قالوا : ثواب السّرَق الموجود في رحله ، كأنه قيل : ثوابه استرقاق الموجود في رحله ، ثم حذف «استرقاق » ، إذ كان معروفا معناه ، ثم ابتدىء الكلام فقيل : هو جزاؤه كذلكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ .
وقد يحتمل وجها آخر : أن يكون معناه : قالوا ثواب السرق الذي يوجد السرق في رحله ، فالسارق جزاؤه . فيكون «جزاؤه » الأوّل مرفوعا بجملة الخبر بعده ، ويكون مرفوعا بالعائد من ذكره في «هو » ، و «هو » رافع «جزاؤه » الثاني .
ويحتمل وجها ثالثا : وهو أن تكون «مَنْ » جزائية ، وتكون مرفوعة بالعائد من ذكره في الهاء التي في «رحله » ، والجزاء الأوّل مرفوعا بالعائد من ذكره في «وجد » ، ويكون جواب الجزاء الفاء في «فهو » . والجزاء الثاني مرفوع ب «هو » ، فيكون معنى الكلام حينئذٍ : قالوا : جزاء السّرَق من وُجد السّرَق في رحله ، فهو ثوابه يُسْترقّ ويستعبد .
قول الفتيان { فما جزاؤه إن كنتم كاذبين } تحكيم ، لأنهم لا يسعهم إلا أن يعيّنوا جزاء يؤخذون به ، فهذا تحكيم المَرء في ذنبه .
ومعنى { ما جزاؤه } : ما عقابه . وضمير { جزاؤه } عائد إلى الصُّوّاع بتقدير مضاف دل عليه المقام ، أي ما جزاء سَارقه أو سرقته .
ومعنى { إن كنتم كاذبين } إن تبين كذبكم بوجود الصُّوَاع في رحالكم .