{ 40 - 49 } { إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ }
يقول تعالى : { إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } فإنهم غير ذائقي العذاب الأليم ، لأنهم أخلصوا للّه الأعمال ، فأخلصهم ، واختصهم برحمته ، وجاد عليهم بلطفه .
وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين مصير الأشرار ومصير الأخيار - ليهلك من هكل عن بينة ويحيا من حى عن بينة - أتبع - سبحانه - الحديث عن سوء عاقبة الكافرين - بالحديث عن حسن عاقبة المؤمنين ، فقال - تعالى - :
{ إِلاَّ عِبَادَ الله . . . } .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } استثناء منقطع من ضمير { ذائقو } وما بينهما اعتراض جئبه مسارعة إلى تحقيق الحق . ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا . فإلا مؤولة بلكن .
فالمعنى : إنكم - أيها المشركون - لذائقو العذاب الأليم ، لكن عباد المخلصين - ليسو كذلك - أولئك لهم رزق معلوم . .
ولفظ { المخلصين } قرأه بعض القراء السبعة - بفتح اللام - أى : لكن عباد الله - تعالى - الذين أخلصهم الله - تعالى - لطاعته وتوحيده ليسوا كذلك .
وقرأه البعض الآخر بكسر اللام . أى : لكن عباد الله الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ، لا يذوقون حر النار كالمشركين .
يقول تعالى مخاطبًا للناس : { إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ . وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين ، كما قال تعالى { وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ العصر : 1 - 3 ] .
وقال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ التين : 4 - 6 ] ، وقال : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا . ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } [ مريم : 71 ، 72 ] ، وقال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ . إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } [ المدثر : 38 ، 39 ] ولهذا قال هاهنا : { إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } أي : ليسوا يذوقون العذاب الأليم ، ولا يناقشون في الحساب ، بل يتجاوز عن سيئاتهم ، إن كان لهم سيئات ، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، إلى ما يشاء الله تعالى من التضعيف .
وقوله : إلاّ عِبادَ اللّهِ المُخْلَصِينَ يقول : إلا عباد الله الذين أخلصهم يوم خلقهم لرحمته ، وكتب لهم السعادة في أمّ الكتاب ، فإنهم لا يذوقون العذاب ، لأنهم أهل طاعة الله ، وأهل الإيمان به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إلاّ عِبادَ اللّهِ المُخْلَصِينَ قال : هذه ثَنِية الله .
استثناء منقطع في معنى الاستدراك ، والاستدراك تعقيب الكلام بما يضاده ، وهذا الاستدراك تعقيب على قوله : { فإنَّهم يومئذٍ في العذابِ مشتركونَ } [ الصافات : 33 ] فإن حال عبَاد الله المخلصين تام الضدية لحال الذين ظلموا ، وليس يلزم في الاستدراك أن يكون رفعَ توهّم وإنما ذلك غالب ، فقول بعض العلماء في تعريفه هو : تعقيب الكلام برفع ما يُتوهم ثبوتُه أو نفيُه ، تعريف أغلبي ، أو أريد أدنى التوهم لأن الاستثناء المنقطع أعمّ من ذلك ، فقد يكون إخراجاً من حكم لا من محكوم عليه ضرورة أنهم صرحوا بأن حرف الاستثناء في المنقطع قائم مقام لكن ، ولذلك يقتصرون على ذكر حرف الاستثناء والمستثنى بل يردفونه بجملة تُبين محلّ الاستدراك كقوله تعالى : { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين } [ الأعراف : 11 ] وقوله : { إلا إبليس أبى } [ البقرة : 34 ] ، وكذلك قوله هنا : { إلاَّ عِبَادَ الله المُخلصين أُولئِكَ لهم رزقٌ معلومُ } . ولو كان المعنى على الاستثناء لما أتبع المستثنى بأخبار عنه لأنه حينئذٍ يثبت له نقيض حكم المستثنى منه بمجرد الاستثناء ، فإن ذلك مُفاد { إلا ، ونظيره مع لكن قولُه تعالى : { أفأنت تنقذ من في النار لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف } الآية في سورة [ الزُّمَر : 19 - 20 ] .
وذِكر المؤمنين بوصف العبودية المضافة لله تعالى تنويه بهم وتقريب ، وذلك اصطلاح غالب في القرآن في إطلاق العبدِ والعبادِ مضافاً إلى ضميره تعالى كقوله : { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } [ ص : 17 ] { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب } [ ص : 45 ] { يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } [ الزخرف : 68 ] ، وربما أطلق العبد غير مضاف مراداً به التقريب أيضاً كقوله : { ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد } [ ص : 30 ] ، أي العبد لله ، ألا ترى أنه لما أريد ذكر قوم من عباد الله من المشركين لم يؤت بلفظ العباد مضافاً كما في قوله تعالى : { بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد } [ الإسراء : 5 ] إلاّ بقرينة مقام التوبيخ في قوله : { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } [ الفرقان : 17 ] لأن صفة الإِضلال قرينة على أن الإِضافة ليست للتقريب ، وقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 42 ] فقرينة التغليب هي مناط استثناء الغاوين من قوله { عبادي وينسب إلى الشافعي :
ومما زادني شَرفاً وفخراً *** وكِدْتُ بأَخمَصي أَطأُ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن أرسلتَ أحمدَ لي نبيا
والمراد بهم هنا الذين آمنوا بالنبي فإنهم الذين يخطرون بالبال عند ذكر أحوال المشركين الذين كفروا به وقالوا فيه ما هو منه بريء خطورَ الضد بذكر ضده .
و{ المُخلَصين } صفة عباد الله وهو بفتح اللام إذا أريد الذين أخلصهم الله لولايته ، وبكسرها أي الذين أخلصوا دينهم لله . فقرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بفتح اللام . وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر اللام .