لكن فصل هذه الأشياء لتعلم فتشتاق النفوس إليها ، ذكر أزواجهم فقال : { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ } أي : وعند أهل دار النعيم ، في محلاتهم القريبة ، حور حسان ، كاملات الأوصاف ، قاصرات الطرف ، إما أنها قصرت طرفها على زوجها ، لعفتها وعدم مجاوزته لغيره ، ولجمال زوجها وكماله ، بحيث لا تطلب في الجنة سواه ، ولا ترغب إلا به ، وإما لأنها قصرت طرف زوجها عليها ، وذلك يدل على كمالها وجمالها الفائق ، الذي أوجب لزوجها ، أن يقصر طرفه عليها ، وقصر الطرف أيضا ، يدل على قصر النفس والمحبة عليها ، وكلا المعنيين محتمل ، وكلاهما صحيح ، و [ كل ] هذا يدل على جمال الرجال والنساء في الجنة ، ومحبة بعضهم بعضا ، محبة لا يطمح إلى غيره ، وشدة عفتهم كلهم ، وأنه لا حسد فيها ولا تباغض ، ولا تشاحن ، وذلك لانتفاء أسبابه .
وقوله - تعالى - : { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ } بيان لمتعة أخرى من المتع التى أحلها الله - تعالى - لهم .
وقاصرات : من القصر بمعنى الحبس ، وعين ، جمع عيناء ، وهى المرأة الواسعة العين فى جمال . أى وفضلا عن ذلك ، فقد متعنا هؤلاء العباد بمتع أخرى . وهى أننا جعلنا عندهم اللمؤانسة نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمدونها إلى غيرهم ، لشدة محبتهن لهم ، ومن صفات هؤلاء النساء - أيضا أنهن جميلات العيون .
وقوله : { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي : عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن . كذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم .
وقوله { عِينٌ } أي : حسان الأعين . وقيل : ضخام الأعين . هو يرجع إلى الأول ، وهي النجلاء العيناء ، فوصف عيونهن بالحسن والعفة ، كقول زليخا في يوسف حين جملته وأخرجته على تلك النسوة ، فأعظمنه وأكبرنه ، وظنن أنه ملك من الملائكة لحسنه وبهاء منظره ، قالت : { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } [ يوسف : 32 ] أي : هو مع هذا الجمال عفيف تقي نقي ، [ فأرتهن جماله الظاهر وأخبرتهن بجماله الباطن ] . {[24961]} وهكذا الحور العين { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] ، ولهذا قال : { وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ عِينٌ * كَأَنّهُنّ بَيْضٌ مّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وعند هؤلاء المخلَصين من عباد الله في الجنة قاصرات الطرف ، وهنّ النساء اللواتي قَصَرْن أطرافهنّ على بُعُولتهنّ ، لا يُرِدْن غيرهم ، ولا يَمْدُدْن أبصارهنّ إلى غيرهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علّي ، عن ابن عباس وَعِنْدَهُمْ قاصِرَاتُ الطّرْفِ عِينٌ يقول : عن غير أزواجهنّ .
حدثني محم بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطّرْفِ عِينٌ قال : على أزواجهن زاد الحارث في حديثه : لا تبغي غيرهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَعِنْدَهُمْ قاصِرَاتُ الطّرْفِ قال : قَصَرْن أبصارهنّ وقلوبهنّ على أزواجهن ، فلا يُردن غيرهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذُكر أيضا عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَعِنْدَهُمْ قاصِرَاتُ الطّرْفِ قال : قَصَرْن طرفهنّ على أزواجهنّ ، فلا يُردْن غيرهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله قاصِراتُ الطّرْفِ قال : لا ينظرن إلا إلى أزواجهنّ ، قد قَصَرْن أطرافهنّ على أزواجهنّ ، ليس كما يكون نساء أهل الدنيا .
وقوله : عِينٌ يعني بالعِين : النّجْلَ العيون عِظامها ، وهي جمع عيناء ، والعيناء : المرأة الواسعة العين عظيمتها ، وهي أحسن ما تكون من العيون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : عِينٌ قال : عظام الأعين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : عِينٌ قال : العَيناء : العظيمة العين .
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنا محمد بن الفرج الصّدَفي الدّمْياطيّ ، عن عمرو بن هاشم ، عن ابن أبي كريمة ، عن هشام بن حسان ، عن أبيه ، عن أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت : قلت : يا رسول الله أخبرني عن قول الله : حُورٌ عِينٌ قال : «العِينُ : الضّخامُ العُيُونِ شُفْرُ الحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَناحِ النّسْرِ » .
و{ قاصِراتُ الطَّرْفِ } أي حابسات أنظارهن حياء وغَنجاً . والطرف : العين ، وهو مفرد لا جمع له من لفظه لأن أصل الطرف مصدر : طَرَفَ بعينه من باب ضَرب ، إذا حرّك جفنيه ، فسُميّت العين طرفاً ، فالطرف هنا الأعين ، أي قاصرات الأعين ، وتقدم عند قوله تعالى : { لا يرتد إليهم طرفهم } في سورة [ إبراهيم : 43 ] ، وقوله : { قبل أن يرتد إليك طرفك } في سورة [ النمل : 40 ] .
وذكر « عند » لإِفادة أنهن ملابسات لهم في مجالسهم التي تُدار عليهم فيها كأس الجنة ، وكان حضور الجواري مجالس الشراب من مكملات الأنس والطرب عند سادة العرب ، قال طرفة :
نَداماي بيض كالنجوم وقَينة *** تروحُ علينا بين برد ومِجْسَد
و { عِينٌ } جمع : عَيْنَاء ، وهي المرأة الواسعة العين النجلاوتها .