{ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } والتقول : تكلف القول واختلاقه . وأكثر ما يكون استعمالا فى الكذب ، يقال : فلان تقول على فلان ، إذا افترى عليه الكذب . أى : بل أيقولون عنك - أيها الرسول - إن افتريت هذا القرآن ، واختلقته من عند نفسك ، لا إنك معصوم عن ذلك ، وأنت ما نطقت إلا بما أوحيناه إليك ، ولكنهم هم المفترون للكذب عليك ، وما حملهم على ذلك إلا عدم إيمانهم بالحق ، وانغماسهم فى الباطل ، وإصرارهم على الجحود .
وإذا كان الأمر - كما زعموا - فها هو ذا القرآن أمامهم يسمعون آياته . . . فليأتوا بحديث يشابه القرآن فى بلاغته . وهدايته ، وسمو تشريعاته وآدابه .
وقد تحداهم - سبحانه - فى آيات أخرى أن يأتوا بعشر سور من مثله فقال : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ثم تحداهم سبحانه - أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فقال : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ولكنهم فى جميع مراحل التحدى ، وقفوا عاجزين مبهوتين ، فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
ولقد تطاولت ألسنتهم على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاتهموه بافتراء ما يقول . فهو هنا يسأل في استنكار : إن كانوا يقولون : تقوله : كأن هذه الكلمة لا يمكن أن تقال . فهو يسأل عنها في استنكار : ( أم يقولون تقوله ? ) . . ويبادر ببيان علة هذا القول الغريب : ( بل لا يؤمنون ) . فعدم استشعار قلوبهم للإيمان ، هو الذي ينطقهم بمثل هذا القول ؛ بعد أن يحجبهم عن إدراك حقيقة هذا القرآن . ولو أدركوها لعلموا أنه ليس من صنع بشر ؛ وأنه لا يحمله إلا صادق أمين .
و : { أم } المتكررة في هذه الآية قدرها بعض النحاة بألف الاستفهام ، وقدرها مجاهد ب «بل » . والنظر المحرر في ذلك أن منها ما يتقدر ببل ، والهمزة على حد قول سيبويه في قولهم : إنها لا بل أم شاء ، ومنها ما هي معادلة ، وذلك قوله : { أم هم قوم طاغون } .
وقرأ مجاهد : «بل هم قوم طاغون » وهو معنى قراءة الناس ، إلا أن العبارة ب { أم } خرجت مخرج التوقيف والتوبيخ . وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال : ما في سورة «الطور » من { أم } كله استفهام وليست بعطف . و : { تقوله } معناه : قال عن الغير إنه قاله . فهي عبارة عن كذب مخصوص .
انتقال متصل بقوله : { أم يقولون شاعر } [ الطور : 30 ] الخ . وهذا حكاية لإِنكارهم أن يكون القرآن وحياً من الله ، فزعموا أنه تقوّله النبي صلى الله عليه وسلم على الله ، فالاستفهام إنكار لقولهم ، وهم قد أكثروا من الطعن وتمالؤوا عليه ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة { يقولون } المفيدة للتجدد .
والتقول : نسبة كلام إلى أحد لم يقله ، ويتعدى إلى الكلام بنفسه ويتعدى إلى من يُنسب إليه بحرف ( على ) ، قال تعالى : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين } [ الحاقة : 44 ، 45 ] الآية . وضمير النصب في { تقوله } عائد إلى القرآن المفهوم من المقام .
وابتدىء الرد عليهم بقوله : { بل لا يؤمنون } لتعجيل تكذيبهم قبل الإِدلاء بالحجة عليهم وليكون ورود الاستدلال مفرّعاً على قوله : { لا يؤمنون } بمنزلة دليل ثان . ومعنى { لا يؤمنون } : أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقوّل القرآن بيّنة لديهم ولكن الزاعمين ذلك يأبون الإِيمان فهم يبادرون إلى الطعن دون نظر ويلقون المعاذير ستراً لمكابرتهم .
ولما كانت مقالتهم هذه طعناً في القرآن وهو المعجزة القائمة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكانت دعواهم أنه تقوّل على الله من تلقاء نفسه قد تروج على الدهماء تصدى القرآن لبيان إبطالها بأن تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله : { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } أي صادقين في أن محمداً صلى الله عليه وسلم تقوله من تلقاء نفسه ، أي فعجزهم عن أن يأتوا بمثله دليل على أنهم كاذبون .
ووجه الملازمة أن محمداً صلى الله عليه وسلم أحد العرب وهو ينطق بلسانهم . فالمساواة بينه وبينهم في المقدرة على نظم الكلام ثابتة ، فلو كان القرآن قد قاله محمد صلى الله عليه وسلم لكان بعض خاصة العرب البلغاء قادراً على تأليف مثله ، فلما تحدّاهم الله بأن يأتوا بمثل القرآن وفيهم بلغاؤهم وشعراؤهم وكلمتهم وكلهم واحد في الكفر كان عجزهم عن الإِتيان بمثل القرآن دالاً على عجز البشر عن الإِتيان بالقرآن ولذلك قال تعالى في سورة هود ( 13 ، 14 ) : { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون اللَّه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم اللَّه } كما قال تعالى : { فإنهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون } [ الأنعام : 33 ] .