{ 15 - 16 } { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا }
يقول تعالى : احمدوا ربكم على إرسال هذا النبي الأمي العربي البشير النذير ، الشاهد على الأمة بأعمالهم ، واشكروه وقوموا بهذه النعمة الجليلة .
ثم يذكر - سبحانه - بعد ذلك هؤلاء المكذبين بما حل بالمكذبين من قبلهم ، فيقول : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } للتشبيه ، أى : أرسلنا إليكم - يا أهل مكة - رسولا شاهدا عليكم هو محمد صلى الله عليه وسلم كما أرسلنا من قبلكم إلى فرعون رسولا شاهدا عليه ، هو موسى - عليه السلام - .
وأكد الخبر فى قوله - تعالى - : { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ . . . } لأن المشركين كانوا ينكرون نبوة النبى صلى الله عليه وسلم .
ونكر رسولا ، لأنهم كانوا يعرفونه حق المعرفة ، وللتعظيم من شأنه صلى الله عليه وسلم أى : أرسلنا إليكم رسولا عظيم الشأن ، سامى المنزلة جامعا لكل الصفات الكريمة .
ويلتفت السياق أمام مشهد الهول المفزع ، إلى المكذبين أولي النعمة ، يذكرهم فرعون الجبار ، وكيف أخذه الله أخذ عزيز قهار :
( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ) .
هكذا في اختصار يهز قلوبهم ويخلعها خلعا ، بعد مشهد الأرض والجبال وهي ترتجف وتنهار .
ثم قال مخاطبًا لكفار قريش ، والمراد سائر الناس : { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ } أي : بأعمالكم ، { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والثوري : { أَخْذًا وَبِيلا } أي : شديدا ، أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول ، فيصيبكم ما أصاب فرعون ، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، كما قال تعالى : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } [ النازعات : 25 ] وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم ؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران . ويُروَى عن ابن عباس ومجاهد .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىَ فِرْعَوْنُ الرّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : إنا أرْسَلْنا إلَيْكُمْ أيها الناس رَسُولاً شاهِدا عَلَيْكُمْ بإجابة من أجاب منكم دعوتي ، وامتناع من امتنع منكم من الإجابة ، يوم تلقوني في القيامة كمَا أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً يقول : مثل إرسالنا من قبلكم إلى فرعون مصر رسولاً بدعائه إلى الحقّ ، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرّسُولَ الذي أرسلناه إليه فأَخَذْناهُ أخْذا وَبِيلاً يقول : فأخذناه أخذا شديدا ، فأهلكناه ومن معه جميعا وهو من قولهم : كلأٌ مستَوْبل ، إذا كان لا يُستمرأ ، وكذلك الطعام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أخْذا وَبِيلاً قال : شديدا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أخْذا وَبِيلاً قال : شديدا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فأخَذْناهُ أخْذا وَبِيلاً أي شديدا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أخْذا وَبِيلاً قال : شديدا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فأخَذْناهُ أخْذا وَبِيلاً قال : الوبيل : الشرّ والعرب تقول لمن تتابع عليه الشرّ : لقد أوبل عليه ، وتقول : أوبلت على شرّك قال : ولم يرض الله بأن غُرّق وعُذّب حتى أقرّ في عذاب مستقرّ حتى يُبعث إلى النار يوم القيامة ، يريد فرعون .
وقوله تعالى : { إنا أرسلنا إليكم } الآية خطاب للعالم ، لكن المواجهون قريش ، وقوله { شاهداً عليكم } نحو قوله { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }{[11398]} [ النساء : 41 ] ، وتمثيله لهم أمرهم بفرعون وعيد كأنه يقول : فحالهم من العذاب والعقاب إن كفروا سائرة إلى مثل حال فرعون .
نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
والمناسبة لذلك التخلصُ إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجراً جميلاً إذ قال له { وذرني والمكذبين } إلى قوله : { وعذاباً أليماً } [ المزمل : 1113 ] .
فالكلام استئناف ابتدائي ، ولا يُعد هذا الخطاب من الالتفات لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله .
فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين : مذهب الجمهور ومذهب السكاكي .
والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثَل مضروب للمشركين .
وهذا أول مثَل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة .
واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه السلام ، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإِعراض عن دعوة الرسول هو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله ، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطيع مِثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : { فقالوا أنؤمن لبشرين مثِلنا وقومُهما لنا عابدون } [ المؤمنون : 47 ] وقد قال أهل مكة { لولا نُزِّل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتَوْا عُتُوّاً كبيراً } [ الفرقان : 21 ] . وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفراً .
وأُكد الخبر ب ( إنَّ ) لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولاً .
ونكر { رسولاً } لأنهم يعلمون المعنيَّ به في هذا الكلام ، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو صفة الإِرسال .
وأدمج في التنظير والتهديدِ وصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه شاهداً عليهم .
والمراد بالشهادة هنا : الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف { شاهداً } موافقاً لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال ، أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإِبلاغ .
وأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربّهم ، وذلك قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح ، وقد تقدم في سورة البقرة ( 143 ) .
وتنكير { رسولاً } المرسَل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإِرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإِرسال في قوله : { كما أرسلنا إلى فرعون } إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولاً .