ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر ، فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة . بادئا بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم :
( إن جهنم كانت مرصادا ، للطاغين مآبا ، لابثين فيها أحقابا . لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا ، وكذبوا بآياتنا كذابا . وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) . .
إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصادا للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم ، مهيأة لاستقبالهم . وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل !
وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقابا بعد أحقاب :
وقوله : للطّاغِينَ مآبا يقول تعالى ذكره : إن جهنم للذين طَغَوا في الدنيا ، فتجاوزوا حدود الله ، استكبارا على ربهم ، كانت منزلاً ومرجعا يرجعون إليه ، ومصيرا يصيرون إليه يسكنونه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة للطّاغِينَ مآبا : أي منزلاً ومأوًى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران عن سفيان مآبا يقول : مرجعا ومنزلاً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن جهنم للذين طَغَوا في الدنيا، فتجاوزوا حدود الله، استكبارا على ربهم، كانت منزلاً ومرجعا يرجعون إليه، ومصيرا يصيرون إليه يسكنونه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
والطاغي هو الذي تعدى حد الله تعالى، وضيع حقوقه، وكفر بأنعمه...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر أو في دنياه بالظلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(مآبا) أي مرجعا، وهو الموضع الذي يرجع إليه، فكأن المجرم قد كان بإجرامه فيها ثم رجع إليها، ويجوز أن يكون كالمنزل الذي يرجع إليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 21]
المرصاد: الحدّ الذي يكون فيه الرصد. والمعنى: أن جهنم هي حدّ الطاغين الذي يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم. أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها، لأن مجازهم عليها، وهي مآب للطاغين. وعن الحسن وقتادة نحوه، قالا: طريقاً وممرّاً لأهل الجنة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتعبير ب« الطّاغين» إظهار في مقام الإِضمار للتسجيل عليهم بوصف الطغيان لأن مقتضى الظاهر أن يقول: « لكم مئاباً».
ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً عن جملة {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} [النبأ: 17] وما لحق بها لأن ذلك مما يثير في نفوس السامعين تطلّب ماذا سيكون بعد تلك الأهوال فأجيب بمضمون {إن جهنم كانت مرصاداً} الآية. وعليه فليس في قوله: {للطاغين} تخريج على خلاف مقتضى الظاهر.
وابتدئ بذكر جهنم لأن المقام مقام تهديد إذ ابتدئت السورة بذكر تكذيب المشركين بالبعث ولما سنذكره من ترتيب نظم هذه الجمل.
وجهنم: اسم لدار العذاب في الآخرة...
والمرصاد: مكان الرصد، أي الرقابة، وهو بوزن مِفعال الذي غلب في اسم آلة الفعل مثل مِضمار للموضع الذي تضُمَّر فيه الخيل، ومنهاج للموضع الذي ينهج منه.
والمعنى: أن جهنم موضع يرصد منه الموَكّلون بها، ويترقبون من يزجى إليها من أهل الطغيان كما يترقب أهل المرصاد من يَأتيه من عدوّ.
ويجوز أن يكون مرصاد مصدراً على وزن المفعال، أي رصداً. والإِخبار به عن جهنم للمبالغة حتى كأنها أصل الرصد، أي لا تفلت أحداً ممن حق عليهم دخولها...
والطغيان: تجاوز الحد في عدم الاكتراث بحق الغير والكِبْرُ، والتعريفُ فيه للعهد فالمراد به المشركون المخاطبون بقوله: {فتأتون أفواجاً} [النبأ: 18] فهو إظهار في مقام الإِضمار لقصد الإِيماء إلى سبب جعل جهنم لهم لأن الشرك أقصى الطغيان إذ المشركون بالله أعْرضوا عن عبادته ومتكبرون على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث أنِفوا من قبول دعوته وهم المقصود من معظم ما في هذه السورة كما يصرح به قوله: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذاباً} [النبأ: 27، 28]. هذا وأن المسلمين المستخفّين بحقوق الله، أو المعتدين على الناس بغير حق، واحتقاراً لا لمجرد غلبة الشهوة لهم حظ من هذا الوعيد بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر.