فلما رأى نوح أنه لا يفيدهم دعاؤه إلا فرارا { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } فاستنصر ربه عليهم ، غضبا لله ، حيث ضيعوا أمره ، وكذبوا رسوله وقال : { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا } قال تعالى : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ }
ثم يحكى القرآن بعد ذلك أن نوحاً - عليه السلام - بعد أن استمع إلى ما قاله قومه فى شأنه من ضلالات وسفاهات ، لجأ إلى ربه - عز وجل - يشكو إليه ما أصابه منهم ويلتمس منه النصر عليهم . فقال : كما حكى القرآن عنه : { رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ } .
أى : قال نوح فى مناجاته لربه : يا رب أنصرنى على هؤلاء القوم الكافرين بسبب تكذيبهم لى وتطاولهم على . وسخريتهم منى ، وإصرارهم على عبادة غيرك .
عندئذ لم يجد نوح - عليه السلام - منفذا إلى تلك القلوب الجامدة المتحجرة ؛ ولم يجد له موئلا من السخرية والأذى ، إلا أن يتوجه إلى ربه وحده ، يشكو إليه ما لقيه من تكذيب ويطلب منه النصر بسبب هذا التكذيب :
( قال : رب انصرني بما كذبون ) . .
وعندما يتجمد الأحياء على هذا النحو ، وتهم الحياة بالحركة إلى الأمام ، في طريق الكمال المرسوم ، فتجدهم عقبة في الطريق . . عندئذ إما أن تتحطم هذه المتحجرات ؛ وإما أن تدعها الحياة في مكانها وتمضي . . والأمر الأول هو الذي حدث لقوم نوح . ذلك أنهم كانوا في فجر البشرية وفي أول الطريق ؛ فشاءت إرادة الله أن تطيح بهم من الطريق :
استئناف بياني لأن ما حكي عن صدهم الناس عن تصديق دعوة نوح وما لفقوه من البهتان في نسبته إلى الجنون ، مما يثير سؤال مَن يسأل عمَّاذا صنع نوح حين كذّبه قومه فيجاب بأنه قال : { رب انصرني } الخ .
ودعاؤه بطلب النصر يقتضي أنه عَدّ فعلَهم معه اعتداءً عليه بوصفِه رسولاً من عند ربه .
والنصر : تغليب المعتدَى عليه على المعتدي ، فقد سأل نوح نصراً مجملاً كما حكي هنا ، وأعلمه الله أنه لا رجاء في إيمان قومه إلاّ مَن آمن منهم كما جاء في سورة هود ، فلا رجاء في أن يكون نصره برجوعهم إلى طاعته وتصديقه واتِّباع ملته ، فسأل نوح حينذاك نصراً خاصاً وهو استئصال الذين لم يؤمنوا كما جاء في سورة نوح ( 26 ، 27 ) { وقال نوح ربّ لا تَذَرْ على الأرض من الكافرين دَيَّاراً إنك إن تَذَرهمُ يُضِلّوا عبادك } . فالتعقيب الذي في قوله تعالى هنا : { فأوحينا إليه } تعقيب بتقدير جمل محذوفة كما علمت ، وهو إيجاز في حكاية القصة كما في قوله تعالى : { أن أضربْ بعصاكَ البَحْرَ فانفلق } الخ في سورة الشّعراء ( 63 ) .
والباء في { بما كَذّبون } سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ من فعل الدعاء ، أي نصراً كائناً بسبب تكذيبهم ، فجعل حظ نفسهِ فيما اعتدوا عليه مُلغىً واهتم بحظ الرسالة عن الله لأن الاعتداء على الرسول استخفاف بمن أرسله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول: انصرني بتحقيق قولي في العذاب بأنه نازل بهم في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال نوح داعيا ربه مستنصرا به على قومه، لما طال أمره وأمرهم وتمادَوا في غيهم:"رَبّ انْصُرْنِي عَلى قَوْمِي بِما كَذّبُونِ" يعني بتكذيبهم إياي، فيما بلّغتهم من رسالتك ودعوتهم إليه من توحيدك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{رب انصرني بما كذبون} لم يدع عليهم بأول ما كذبوا، وإنما دعا عليهم بعد ما أيس من عودهم إلى تصديقه، وهو ما قال: {أني مغلوب فانتصر} (القمر: 10).
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أي أعني عليهم، فالنصرة: المعونة على العدو. فأجاب الله تعالى دعاءه، وأهلك عدوه، فأغرقهم ونجاه من بينهم ومن معه من المؤمنين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أبدلني من غمّ تكذيبهم، سلوة النصرة عليهم، أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم إن نوحاً عليه السلام دعا على قومه حين يئس منهم وإن كان دعاؤه في هذه الآية ليس بنص وإنما هو ظاهر من قوله {بما كذبون} فهذا يقتضي طلبه العقوبة وأما النصرة بمجردها فكانت تكون بردهم إلى الإيمان،.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فلما رأى نوح أنه لا يفيدهم دعاؤه إلا فرارا استنصر ربه عليهم، غضبا لله، حيث ضيعوا أمره، وكذبوا رسوله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندئذ لم يجد نوح -عليه السلام- منفذا إلى تلك القلوب الجامدة المتحجرة؛ ولم يجد له موئلا من السخرية والأذى، إلا أن يتوجه إلى ربه وحده، يشكو إليه ما لقيه من تكذيب ويطلب منه النصر بسبب هذا التكذيب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني لأن ما حكي عن صدهم الناس عن تصديق دعوة نوح وما لفقوه من البهتان في نسبته إلى الجنون، مما يثير سؤال مَن يسأل عمَّاذا صنع نوح حين كذّبه قومه فيجاب بأنه قال: {رب انصرني} الخ. ودعاؤه بطلب النصر يقتضي أنه عَدّ فعلَهم معه اعتداءً عليه بوصفِه رسولاً من عند ربه. والنصر: تغليب المعتدَى عليه على المعتدي، فقد سأل نوح نصراً مجملاً كما حكي هنا، وأعلمه الله أنه لا رجاء في إيمان قومه إلاّ مَن آمن منهم كما جاء في سورة هود، فلا رجاء في أن يكون نصره برجوعهم إلى طاعته وتصديقه واتِّباع ملته، فسأل نوح حينذاك نصراً خاصاً وهو استئصال الذين لم يؤمنوا كما جاء في سورة نوح (26، 27) {وقال نوح ربّ لا تَذَرْ على الأرض من الكافرين دَيَّاراً إنك إن تَذَرهمُ يُضِلّوا عبادك}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فقد كان وحده، ولكنه كان يشعر أن الله معه، وكان يستمدّ القوّة من هذا الشعور، كلّما أرادوا أن يضعفوا موقفه، أو يهزموا روحه. كان يوصل الليل بالنهار، ويستنفد كل التجارب والأساليب بغية الدخول إلى عقولهم وقلوبهم وحياتهم، ولكنهم كانوا يزدادون عناداً كلما ازداد إصراراً على دعوتهم إلى الإيمان، حتى لم يبق له ما يقوله لهم، فقد قال كل شيءٍ، واستنفد كل الوسائل والأساليب، لكنه بقي وحده، مع قليلٍ من المؤمنين، فدعا ربّه يسأله النصرة عليهم جرّاء تكذيبهم له...