{ 21 - 30 } { كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي }
{ كَلَّا } أي : ليس [ كل ] ما أحببتم من الأموال ، وتنافستم فيه من اللذات ، بباق لكم ، بل أمامكم يوم عظيم ، وهول جسيم ، تدك فيه الأرض والجبال وما عليها حتى تجعل قاعًا صفصفًا لا عوج فيه ولا أمت .
وبعد هذا الزجر والردع لهم ، لسوء أقوالهم وأفعالهم ، أخذت السورة الكريمة فى زجرهم وردعهم عن طريق تذكيرهم بأهوال الآخرة فقال : - تعالى - : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً } . وقوله - تعالى - : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً } ردع لهم وزجر عن أفعالهم السابقة ، وهى عدم إكرام اليتيم ، وعدم الحض على طعام المسكين .
وقوله : { دُكَّتِ الأرض } من والدك : بمعنى الكسر والدق والزلزلة الشديدة ، والتحطيم الجسيم ، وانتصب لفظ " دكا " الأول على أنه مصدر مؤكد للفعل ، وانتصاب الثانى على أنه تأكيد الأول . وقيل : تكرار " دكا " للدلالة على الاستيعاب ، كقولك : قرأت النحو بابا بابا ، أى : قرأته كله .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض . . } أى : ما هكذا ينبغى أن يكون الأمر . فهو رد لانكبابهم على الدنيا ، وجميعهم لها ، فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الأرض ، ولا ينفعه الندم ، والدك .
الكسر والدق ، أى : زلزلت وحركت تحريكا بعد تحريك .
وقوله : { دَكّاً دَكّاً } أى : مرة بعد مرة ، زلزلت فكسر بعضها بعضا فتكسر كل شئ على ظهرها . .
وعند هذا الحد من فضح حقيقة حالهم المنكرة ، بعد تصوير خطأ تصورهم في الابتلاء بالمنع والعطاء ، يجيء التهديد الرعيب بيوم الجزاء وحقيقته ، بعد الابتلاء ونتيجته ، في إيقاع قوي شديد :
" كلا . إذا دكت الأرض دكا دكا . وجاء ربك والملك صفا صفا . وجيء يومئذ بجهنم . يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ؟ يقول : يا ليتني قدمت لحياتي . فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد " . .
ودك الأرض ، وتحطيم معالمها وتسويتها ؛ وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع في يوم القيامة . فأما مجيء ربك والملائكة صفا صفا ، فهو أمر غيبي لا ندرك طبيعته ونحن في هذه الآرض . ولكنا نحس وراء التعبير بالجلال والهول . كذلك المجيء بجهنم . نأخذ منه قربها منهم وقرب المعذبين منها وكفى . فأما حقيقة ما يقع وكيفيته فهي من غيب الله المكنون ليومه المعلوم .
إنما يرتسم من وراء هذه الآيات ، ومن خلال موسيقاها الحادة التقسيم ، الشديدة الأسر ، مشهد ترجف له القلوب ، وتخشع له الأبصار . والأرض تدك دكا دكا !
ويعني جلّ ثناؤه بقوله : كَلاّ : ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر . ثم أخبر جلّ ثناؤه عن ندمهم على أفعالهم السيّئة في الدنيا ، وتلهّفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم الندم ، فقال جلّ ثناؤه : إذَا دُكّت الأرْضُ دَكّا دكّا يعني : إذا رجت وزُلزلت زلزلة ، وحرّكت تحريكا بعد تحريك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إذَا دُكّتِ الأرْضُ دَكّا دَكّا يقول : تحريكها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حرملة بن عمران ، أنه سمع عمر مولى غُفْرة يقول : إذا سمعت الله يقول كلا ، فإنما يقول : كذبت .
زجر وردع عن الأعمال المعدودة قبله ، وهي عدم إكرامهم اليتيم وعدم حضهم على طعام المسكين ، وأكلُهم التراث الذي هو مالُ غير آكله ، وعن حب المال حبّاً جمّاً .
{ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً } .
استئناف ابتدائي انْتُقل به من تهديدهم بعذاب الدنيا الذي في قوله : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } [ الفجر : 6 ] الآيات إلى الوعيد بعذاب الآخرة . فإن استخفوا بما حلّ بالأمم قبلهم أو أمهلوا فأخر عنهم العذاب في الدنيا فإن عذاباً لا محيص لهم عنه ينتظرهم يوم القيامة حين يتذكّرون قَسْراً فلا ينفعهم التذكر ، ويندمون ولات ساعةَ مندم .
فحاصل الكلام السابق أن الإِنسان الكافر مغرور يَنُوط الحوادث بغير أسبابها ، ويتوهمها على غير ما بها ولا يُصغي إلى دعوة الرسل فيستمر طولَ حياته في عَماية ، وقد زجروا عن ذلك زجراً مؤكداً .
وأَتبع زجرهم إنذاراً بأنهم يحين لهم يوم يُفيقون فيه من غفلتهم حين لا تنفع الإِفاقة .
والمقصود من هذا الكلام هو قوله : { فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد } ، وقوله { يا أيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] ، وأما ما سبق من قوله { إذا دكت الأرض } إلى قوله { وجيء يومئذٍ بجهنم } فهو توطئة وتشويق لسماع ما يجيء بعده وتهويل لشأن ذلك اليوم وهو الوقت الذي عُرِّف بإضافة جملة { دكت الأرض } وما بعدها من الجمل وقد عرف بأشراط حلوله وبما يقع فيه من هول العقاب .
والمراد بالأرض الكُرَة التي عليها الناس ، ودكّها حطمها وتفرق أجزائها الناشىءُ عن فساد الكون الكائنة عليه الآن ، وذلك بما يحدثه الله فيها من زلازل كما في قوله : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } [ الزلزلة : 1 ] الآية .
و { دكاً دكاً } يجوز أن يكون أولهما منصوباً على المفعول المطلق المؤكِّد لفعله . ولعل تأكيده هنا لأن هذه الآية أول آية ذكر فيها دَكُّ الجبال ، وإذ قد كان أمراً خارقاً للعادة كان المقام مقتضياً تحقيق وقوعه حقيقةً دون مجاز ولا مبالغة ، فأكد مرتين هنا ولم يؤكد نظيره في قوله : { فدكتا دكة واحدة } في سورة الحاقة ( 14 ) ف { دكّا } الأول مقصود به رفع احتمال المجاز عن « دُكّتا » الدك أي هو دَكّ حقيقي ، و { دَكا } الثاني منصوباً على التوكيد اللفظي لدكا الأول لزيادة تحقيق إرادة مدلول الدك الحقيقي لأن دك الأرض العظيمة أمر عجيب فلغرابته اقتضى إثباتُه زيادة تحقيق لمعناه الحقيقي .
وعلى هذا درج الرضي قال : ويستثنى من منع تأكيد النكرات ( أي تأكيداً لفظياً ) شيء واحد وهو جواز تأكيدها إذا كانت النكرة حكماً لا محكوماً عليه كقوله صلى الله عليه وسلم : " فنكاحها باطل باطل باطل " . ومثله قوله تعالى : { دكت الأرض دكاً دكاً } فهو مثل : ضَرَبَ ضَرَب زيدٌ ا ه .
وهذا يلائم ما في وصف دكّ الأرض في سورة الحاقة بقوله تعالى : { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } [ الحاقة : 14 ] ودفع المنافاة بين هذا وبين ما في سورة الحاقة .
ويجوز أن يكون مجموع المصدرين في تأويل مفرد منصوب على المفعول المطلق المبيِّن للنوع . وتأويله . أنه دكّ يعقُب بعضه بعضاً كما تقول : قرأت الكتاب باباً باباً وبهذا المعنى فسّر صاحب « الكشاف » وجمهور المفسرين من بعده . وبعض المفسرين سكت عن بيانه قال الطيبي : « قال ابن الحاجب : لعلّه قالَه في « أماليه على المقدمة الكافية » وفي نسختي منها نقص ولا أعرف غيرها بتونس ولا يوجد هذا الكلام في « إيضاح المفصل » بينت له حسابه باباً باباً ، أي مفصلاً . والعرب تكرر الشيء مرتين » فتستوعب تفصيل جنسه باعتبار المعنى الذي دلّ عليه لفظُ المكرّر ، فإذا قلت : بَيَّنْت له الكتاب باباً باباً فمعناه بينته له مفصلاً باعتبار أبوابه اه .
قلت : هذا الوجه أوفى بحق البلاغة فإنه معنى زائد على التوكيد والتوكيد حاصل بالمصدر الأول .
وفي « تفسير الفخر » : وقيل : فبُسِطَتَا بسطةً واحدة فصارتا أرضاً لا ترى فيها أمتاً وتبعه البيضاوي يعني : أن الدك كناية عن التسوية لأن التسوية من لوازم الدك ، أي صارت الجبال مع الأرض مستويات لم يبق فيها نتوء .
ولك أن تجعل صفة واحدة مجازاً في تفرد الدكة بالشدة التي لا ثاني مثلها ، أي دكة لا نظير لها بين الدكات في الشدة من باب قولهم : هو وحيد قومه ، ووحيد دهره ، فلا يعارض قوله : { دكاً دكاً } بهذا التفسير . وفيه تكلف إذ لم يسمع بصيغةِ فَاعل فلم يسمع : هو واحد قومه .