والظرف فى قوله - تعالى - : { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } متعلق بمحذوف تقديره : اذكر أى : اذكر - أيها العاقل لتعتبر وتتعظ - وقت أن جاء إبراهيم إلى ربه بقلب سليم من الشرك ومن غيره من الآفات كالحسد والغل والخديعة والرياء .
والمراد بمجيئه ربه بقلبه : إخلاص لقلبه لدعوة الحق ، واستعداده لبذل نفسه وكل شئ يملكه فى سبيل رضا ربه - عز وجل - .
فهذا التعبير يفيد الاستسلام المطلق لربه والسعى الحثيث فى كل ما يرضيه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى المجئ بقلبه ربه ؟ قلت : معناه أنه أخلص لله قلبه ، وعرف ذلك منه فضرب المجئ مثلا لذلك .
وقوله : إذْ جاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ يقول تعالى ذكره : إذ جاء إبراهيمُ ربّه بقلب سليم من الشرك ، مخلص له التوحيد ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إذْ جاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ والله من الشرك .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : إذْ جاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال : سليم من الشرك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال : لا شكّ فيه . وقال آخرون في ذلك بما :
حدثنا أبو كريب ، قلا : حدثنا عَثّام بن عليّ ، قال : حدثنا هشام ، عن أبيه ، قال : يا بنيّ لا تكونوا لعّانين ، ألم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قطّ ، فقال الله : إذْ جاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ .
و{ إذ } ظرف للماضي وهو متعلق بالكون المقدَّر للجار والمجرور الواقعين خبراً عن { إنَّ } في قوله : { وإنَّ من شيعته لإبراهيم ، } أو متعلق بلفظ شيعة لما فيه من معنى المشايعة والمتابعة ، أي كان من شيعته حين جاء ربه بقلب سليم كما جاء نوح ، فذلك وقتُ كونه من شيعته ، أي لأن نوحاً جاء ربه بقلب سليم . وفي { إذْ } معنى التعليل لكونه من شيعته فإن معنى التعليل كثير العروض ل { إذْ } كقوله تعالى : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } [ الزخرف : 39 ] . وهذه نعمة على نوح وهي ثانية عشرة .
والباء في { بِقَلبٍ سليمٍ } للمصاحبة ، أي جاء معه قلب صفته السلامة فيؤول إلى معنى : إذ جاء ربه بسلامة قلب ، وإنما ذكر القلب ابتداء ثم وصف ب { سليمٍ } لما في ذكر القلب من إحضار حقيقة ذلك القلب النزيه ، ولذلك أوثر تنكير « قلب » دون تعريف .
و { سَلِيمٍ : } صفة مشبهة مشتقة من السلامة وهي الخلاص من العلل والأدواء لأنه لما ذكر القلب ظهر أن السلامة سلامته مما تصاب به القلوب من أدوائها فلا جائز أن تعني الأدواء الجسدية لأنهم ما كانوا يريدون بالقلب إلا مقرّ الإِدراك والأخلاق . فتعين أن المراد : صاحب القلب مع نفسه بمثل طاعة الهوى والعجب والغرور ، ومع الناس بمثل الكبر والحقد والحسد والرياء والاستخفاف .
وأطلق المجيء على معاملته به في نفسه بما يرضي ربه على وجه التمثيل بحال من يجيء أحداً ملقياً إليه مَا طلبه من سلاح أو تحف أو ألطاف فإن الله أمره بتزكِية نفسه فامتثل فأشبه حال من دعاه فجاءه . وهذا نظير قوله تعالى : { أجيبوا داعي الله } [ الأحقاف : 31 ] .
وقد جمع قوله : { بِقَلْبٍ سليمٍ } جوامع كمال النفس وهي مصدر محامد الأعمال . وفي الحديث : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .
وقد حكي عن إبراهيم قوله : { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [ الشعراء : 88 - 89 ] ، فكان عماد ملة إبراهيم هو المتفرّع عن قوله : { بقلب سليم ، } وذلك جُماع مكارم الأخلاق ولذلك وصف إبراهيم بقوله تعالى : { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } [ هود : 75 ] ، فكان منزهاً عن كل خلق ذميم واعتقاد باطل .
ثم إن مكارم الأخلاق قابلة للازدياد فكان حظ إبراهيم منها حظاً كاملاً لعله أكمل من حظ نوح بناء على أن إبراهيم أفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وادخر الله منتهى كمالها لِرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك قال : " إنما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق " ، ولذلك أيضاً وصفت ملة إبراهيم بالحنيفية ووصف الإِسلام بزيادة ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم " بُعِثت بالحنيفية السمحة " وتعليق كونه من شيعة نوح بهذا الحِين المضاف إلى تلك الحالة كناية عن وصف نوح بسلامة القلب أيضاً يحصل من قوله : { وإنَّ من شيعتِه لإبراهيم } إثبات مثل صفات نوح لإِبراهيم ومن قوله : { إذ جَاءَ ربَّهُ بقلْبٍ سليمٍ } إثبات صفة مثل صفة إبراهيم لنوح على طريق الكناية في الإثباتين ، إلا أن ذلك أثبت لإِبراهيم بالصريح ويثبت لنوح باللزوم فيكون أضعف فيه من إبراهيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إذْ جاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" يقول تعالى ذكره: إذ جاء إبراهيمُ ربّه بقلب سليم من الشرك، مخلص له التوحيد.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حين جاء إلى الموضع الذي أمره الله بالرجوع اليه، بقلب سليم عن الشرك برئ من المعاصي.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من جميع آفات القلوب، ولا معنى للتخصيص لأنه مطلق، فليس بعض الآفات أولى من بعض فيتناولها كلها، فإن قلت: ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلت: معناه أنه أخلص لله قلبه، وعرف ذلك منه فضرب المجيء مثلاً لذلك.
قال الأصوليون المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس من المعاصي، فيدخل فيه كونه سليما عن الشرك وعن الشك وعن الغل والغش والحقد والحسد عن ابن عباس أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه، وسلم جميع الناس من غشه وظلمه وأسلمه الله تعالى فلم يعدل به أحدا، ويتأكد هذا بقوله تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين}.
فإن قيل ما معنى المجيء بقلبه ربه؟ قلنا معناه أنه أخلص لله قلبه، فكأنه أتحف حضرة الله بذلك القلب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذ} أي حين {جاء ربه} أي المحسن في تربيته.
{بقلب سليم} أي بالغ السلامة عن حب غيره، والمجيء مجاز عن الإخلاص الذي لا شائبة فيه كما أن الآتي إليك لا يكون شيء من بدنه عند غيرك.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
من العلائقِ الشَّاغلةِ عن التَّبتلِ إلى الله عزَّ وجلَّ.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
باق على الفطرة، سليم عن النقائص والآفات، محافظ على عهد التوحيد الفطريّ، منكر على من غيّر وبدّل...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وإذا كان قلب العبد سليما، سلم من كل شر، وحصل له كل خير.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يبرز من صفة إبراهيم سلامة القلب وصحة العقيدة وخلوص الضمير...
وهي صورة الاستسلام الخالص، تتمثل في مجيئه لربه، وصورة النقاء والطهارة والبراءة والاستقامة تتمثل في سلامة قلبه، والتعبير بالسلامة تعبير موح مصور لمدلوله، وهو في الوقت ذاته بسيط قريب المعنى واضح المفهوم. ومع أنه يتضمن صفات كثيرة من البراءة والنقاوة، والإخلاص والاستقامة.. إلا أنه يبدو بسيطاً غير معقد، ويؤدي معناه بأوسع مما تؤديه هذه الصفات كلها مجتمعات! وتلك إحدى بدائع التعبير القرآني الفريد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الباء في {بِقَلبٍ سليمٍ} للمصاحبة، أي جاء معه قلب صفته السلامة فيؤول إلى معنى: إذ جاء ربه بسلامة قلب، وإنما ذكر القلب ابتداء ثم وصف ب {سليمٍ} لما في ذكر القلب من إحضار حقيقة ذلك القلب النزيه، ولذلك أوثر تنكير « قلب» دون تعريف.
وقد جمع قوله: {بِقَلْبٍ سليمٍ} جوامع كمال النفس وهي مصدر محامد الأعمال. وفي الحديث:"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"؛ ولذلك وصف إبراهيم بقوله تعالى: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} [هود: 75]، فكان منزهاً عن كل خلق ذميم واعتقاد باطل، ثم إن مكارم الأخلاق قابلة للازدياد فكان حظ إبراهيم منها حظاً كاملاً لعله أكمل من حظ نوح؛ بناء على أن إبراهيم أفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وادخر الله منتهى كمالها لِرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك قال: "إنما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق"، ولذلك أيضاً وصفت ملة إبراهيم بالحنيفية ووصف الإِسلام بزيادة ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم "بُعِثت بالحنيفية السمحة".
يقول سبحانه: {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} هذه هي العلة؛ لأن سلامة القلب هي الأساسُ في الدين وفي العقيدة، لأن فطرة الله التي فطر الناسَ عليها ابتداءً مبنية كلها على هيئة الصلاح والسلامة، فإن طرأ على هذه الفطرة فسادٌ فمن الإنسان.
لذلك مدح سيدنا إبراهيم بسلامة القلب {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وهو القلب الذي فطر عليه أولاً ظل كما هو لم يتغيَّر، فعاش به، وجاء به ربه في الدنيا، لذلك يظفر به في الآخرة: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89].
فالسلامة الأولى التي فطره الله عليها استصحبها باستصحاب منهج الله، فسَلِم في الدنيا، فلقىَ اللهَ بقلْبٍ سليم في الآخرة، وهكذا وصف اللهُ نبيَّه إبراهيم على أحسن ما يكون الوصف.
وتأمل كلمة {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ} فهي تُوحي بأن سيدنا إبراهيم لم ينتظر إلى أن يأتي له رسولٌ يدعوه، إنما أقبل على الله بنفسه، وجاء بفكره يبحث ويتأمل في ملكوتِ السماوات والأرض، إلى أنِ اهتدى إلى الله.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ما يجعله منفتحاً على الله بكل عمقه وتطلّعه وشعوره، فلا مكان لغيره في داخله، في ما يعنيه ذلك من التصور الصافي للمضمون الإيماني بالله، والشعور النقيّ بالعلاقة به، والالتزام بما يحبه ويرضاه؛ ولهذا فقد كان يواجه الأمور بعفويّةٍ وبساطةٍ مما يجعله يسمِّي الأشياء بأسمائها من دون تعقيدٍ.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فسّر عبارة (القلب السليم) الإمام الصادق (عليه السلام) عندما قال: «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه!».
واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة، حيث نقرأ في سورة الشعراء، وفي الآيات 88 و89 على لسان النّبي الكبير إبراهيم (عليه السلام) قوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم).