فلما رأوه ، لا ينكف عما كان عليه من دعوتهم ، ولم يدركوا منه مطلوبهم { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فما أجهلهم وأضلهم ، حيث قالوا هذه المقالة ، لنبيهم الناصح .
فهلا قالوا : إن كانوا صادقين : يا نوح قد نصحتنا ، وأشفقت علينا ، ودعوتنا إلى أمر ، لم يتبين لنا ، فنريد منك أن تبينه لنا لننقاد لك ، وإلا فأنت مشكور في نصحك . لكان هذا الجواب المنصف ، الذي قد دعي إلى أمر خفي عليه ، ولكنهم في قولهم ، كاذبون ، وعلى نبيهم متجرئون . ولم يردوا ما قاله بأدنى شبهة ، فضلا عن أن يردوه بحجة .
ولهذا عدلوا - من جهلهم وظلمهم - إلى الاستعجال بالعذاب ، وتعجيز الله ، ولهذا أجابهم نوح عليه السلام بقوله : { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ } أي : إن اقتضت مشيئته وحكمته ، أن ينزله بكم ، فعل ذلك . { وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } لله ، وأنا ليس بيدي من الأمر شيء .
وعندما وجدوا أنفسهم عاجزين عن الرد على نبيهم بأسلوب مقارعة الحجة بالحجة ، لجأوا - على عادة طبقتهم - إلى أسلوب التحدى وقد أخذتهم العزة بالإِثم فقالوا - كما حكى القرآن عنهم :
{ قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا . . . }
أى : قال قوم نوح - عليه السلام - له بعد أن غلبهم بحجته ، وعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم : { يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا . . . }
أى : خاصمتنا ونازعتنا فأكثرت فى ذلك حتى لم تترك لنا منفذا للرد عليك ، والجدال : هو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة . وأصله - كما يقول الآلوسى - من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله ، ومنه الجديل - أى الحبل المفتول - وجدلت البناء : أحكمته ، والأجدال : الصقر المحكم البنية ، والمجدل - كمنبر القصر المحكم البناء . . .
وسميت المنازعة فى الرأى جدالا ، لأن كل واحد من المتجادلين كأنما ، يفتل الآخر عن رأيه - أى بصرفه عنه - . . .
وقيل : الأصل فى الجدال الصراع ، وإسقاط الإِنسان صاحبه على الجدالة - بفتح الجيم - أى : الأرض الصلبة .
ثم أضافوا إلى هذا العجز عن مجابهة الحجة سفاهة فى القول فقالوا : { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } .
أى : لقد سئمنا مجادلتك لنا ومللناها ، فأتنا بالعذاب الذى تتوعدنا به ، إن كنت من الصادقين فى دعواك النبوة ، وفى وعيدك لنا بعقاب الله ، فإننا مصرون على عبادة آلهتنا ، وكارهون لما تدعونا إليه .
وهذا شأن الجاهل المعاند ، إنه بشهر السيف إذا أعجزته الحجة ، ويعلن التحدى إذا يئس عن مواجهة الحق . . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ يَنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال قوم نوح لنوح عليه السلام : قد خاصمتنا فأكثرت خصومتنا ، فأتنا بما تعدنا من العذاب إن كنت من الصادقين في عداتك ودعواك أنك لله رسول . يعني بذلك أنه لن يقدر على شيء من ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : جادَلْتَنا قال : ماريتنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : قالوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا قال : ماريتنا ، فَأكْثَرْتَ جِدَالَنا فَأْتِنا بِمَا تَعِدُنا قال ابن جُرَيج : تكذيبا بالعذاب ، وأنه باطل .
وقوله : { يا نوح . . . } ، الآية معناه : قد طال منك هذا الجدال ، وهو المراجعة في الحجة والمخاصمة والمقابلة بالأقوال حتى تقع الغلبة ، وهو مأخوذ من الجدل وهو شدة الفتل ومنه : حبل مجدول ، أي ممرّ{[6315]} ، ومنه قيل للصقر أجدل لشدة بنيته وفتل أعضائه ؛ و «الجدال » فعال ، مصدر فاعل ، وهو يقع من اثنين ، ومصدر فاعل يجيء على فعال وفيعال ومفاعلة ، فتركت الياء من فيعال ورفضت .
ومن الجدال ما هو محمود ، وذلك إذا كان مع كافر حربي في منعته ويطمع في الجدال أن يهتدي ، ومن ذلك هذه الآية ، ومنه قوله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن }{[6316]} إلى غير ذلك من الأمثلة . ومن الجدال ما هو مكروه ، وهو ما يقع بين المسلمين بعضهم في بعض في طلب علل الشرائع وتصور ما يخبر الشرع به من قدرة الله ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وكرهه العلماء ، والله المستعان .
وقرأ ابن عباس «قد جادلتنا فأكثرت جَدلنا » بغير ألف ، وبفتح الجيم ، ذكره أبو حاتم{[6317]} .
والمراد بقولهم { ما تعدنا } العذاب والهلاك ، والمفعول الثاني ل { تعدنا } مضمر تقديره بما تعدناه . ولما كان الكلام يقتضي العذاب جاز أن يستعمل فيه الوعد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.