ثم أخبر عن عقوبة هؤلاء المعاندين الظالمين الدنيوية والأخروية ، فقال { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } أي : لا يفتر عنهم العذاب ساعة ولا لحظة ، لا بإزالته أو إزالة بعض شدته ، { ولا هم ينظرون } أي : يمهلون ، لأن زمن الإمهال قد مضى ، وقد أعذر الله منهم وعمرهم ما يتذكر فيه من تذكر ، فلو كان فيهم خير لوجد ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه .
ثم بين - سبحانه - عاقبة هؤلاء الظالمين فقال : { أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } .
قال الراغب : اللعن : الطرد والإبعاد على سبيل السخط ، وذلك من الله - تعالى - فى الآخرة عقوبة وفى الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه ، ومن الإنسان دعاء على غيره " .
والمعنى : أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة { جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } أى جزاؤهم أن عليهم غضب الله وسخطه بسبب استحبابهم الكفر على الإيمان { والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } أى وعليهم كذلك سخط الملائكة والناس أجمعين وغضبهم ، ودعاؤهم عليهم باللعنة والطرد من رحمة الله .
وقوله { أولئك } مبتدأ . وقوله { جَزَآؤُهُمْ } مبتدأ ثان ، وقوله { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } إلخ . . خبر المبتدأ الثانى ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول .
والآية الكريمة قد بينت أن اللعنة على هؤلاء القوم ، صادرة من الله وهى أشد ألوان اللعن ، وصادرة من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وصادرة من الناس أجمعين ، أى أن الفطر الإنسانية تلعنهم لنبذهم الحق بعد أن عرفوه وشهدوا به ، وقامت بين أيديهم الأدلة على أنه حق .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن قيل : لم عم جميع الناس مع أن من وافقهم فى كفرهم لا يلعنهم ؟ قلنا فيه وجوه : منها أنهم فى الآخرة يلعن بعضهم بعضا كما قال - تعالى - { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } فعلى هذا التقدير يكون اللعن قد حصل للكفار من الكفار . ومنها كأن الناس هم المؤمنون ، والكفار ليسوا من الناس ، ثم لما ذرك لعن الثلاث قال { أَجْمَعِينَ } . ومنها وهو الأصح عندى : أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ، ولكنه يعتقد فى نفسه أنه ليس بمبطل ولا كافر ، فإذا لعن الكافر وكان هو فى علم الله كافرا فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك " .
{ أُولَئِكَ جَزَاوهُمْ } يعني : هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ، وبعد أن شهدوا أن الرسول حقّ ،
{ جَزَاوهُمْ } ثوابهم من عملهم الذي عملوه ، { أنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ } يعني أن حلّ بهم من الله الإقصاء والبعد ، ومن الملائكة والناس إلا مما يسوءهم من العقاب { أجْمَعِينَ } يعني من جميعهم : لا بعض من سماه جلّ ثناؤه من الملائكة والناس ، ولكن من جميعهم ، وإنما جعل ذلك جلّ ثناؤه ثواب عملهم ، لأن عملهم كان بالله كفرا . وقد بينا صفة لعنة الناس الكافر في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته .
{ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } يدل بمنطوقه على جواز لعنهم ، وبمفهومه على نفي جواز لعن غيرهم . ولعل الفرق أنهم مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدى مؤيسون عن الرحمة رأسا بخلاف غيرهم ، والمراد بالناس المؤمنون أو العموم فإن الكافر أيضا يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه .
ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله ، فتجيء الآية عامة تامة العموم ، و «اللعنة » الإبعاد وعدم الرحمة والعطف ، وذلك مع قرينة الكفر زعيم بتخليدهم في النار ، ولعنة الملائكة قول ، و{ الناس } : بنو آدم ، ويظهر من كلام أبي علي الفارسي في بعض تعاليقه ، أن الجن يدخلون في لفظة الناس ، وأنشد على ذلك ، [ الوافر ]
فقلتُ إلى الطَّعامِ فَقَالَ مِنْهُمْ . . . أُناسٌ يَحْسُدُ الأَنَسَ الطَّعاما{[3310]}
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي يظهر ، أن لفظة { الناس } إذا جاءت مطلقة ، فإنما هي في كلام العرب بنو آدم لا غير ، فإذا جاءت مقيدة بالجن ، فذلك على طريقة الاستعارة ، إذ هي جماعة كجماعة ، وكذلك { برجال من الجن }{[3311]} وكذلك { نفر من الجن }{[3312]} ، ولفظة النفر أقرب إلى الاشتراك من رجال وناس ، وقوله تعالى : { من الجنة والناس }{[3313]} قاض بتباين الصنفين ، وقوله تعالى : { والناس أجمعين }{[3314]} إما يكون لمعنى الخصوص في المؤمنين ويلعن بضعهم بعضاً ، فيجيء من هذا في كل شخص منهم أن لعنة جميع الناس ، وإما أن يريد أن هذه اللعنة تقع في الدنيا من جميع الناس على من هذه صفته ، وكل من هذه صفته - وقد أغواه الشيطان- يلعن صاحب الصفات ولا يشعر من نفسه أنه متصف بها ، فيجيء من هذا أنهم يلعنهم جميع الناس في الدنيا حتى أنهم ليلعنون أنفسهم ، لكن على غير تعيين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله و} لعنة {الملائكة والناس أجمعين} يعني والعالمين كلهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أُولَئِكَ جَزَاؤهُمْ}: هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حقّ، {جَزَاؤهُمْ}: ثوابهم من عملهم الذي عملوه، {أنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ}: أن حلّ بهم من الله الإقصاء والبعد، ومن الملائكة والناس إلا مما يسوءهم من العقاب {أجْمَعِينَ}: من جميعهم: لا بعض من سماه جلّ ثناؤه من الملائكة والناس، ولكن من جميعهم، وإنما جعل ذلك جلّ ثناؤه ثواب عملهم، لأن عملهم كان بالله كفرا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقيل: لعنة الله: عذاب الله، وقيل: لعنة الله، هي الإياس من رحمته وعفوه. واللعن، هو الطرد في اللغة، ولعنة الملائكة ما قيل في آية أخرى: قوله: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب} {قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا} الآية [غافر: 49 و 50]، وقيل: لعنة الملائكة قولهم لهم: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} [{لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون}] [الزخرف: 77 و 78]، وقيل: يدعو عليهم باللعن، وقيل: لعنة المؤمنين قوله: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} [الأعراف: 50] فذلك لعنهم عليهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إن قيل: إذا كان لعن الملائكة والناس أجمعين تابعا للعن الله، فهلا اقتصر عليه في الذكر؟ قيل: الوجه في ذلك أن لا يوهم أن لعنهم لا يجوز إلا لله عز وجل كما لا يجوز أن يعاقبهم إلا الله أو من يأمرهم بذلك...
فان قيل: لم قال:"والناس أجمعين" ومن وافق الكافر في مذهبه لا يبرأ منه؟... قيل عن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها -إن له أن يلعنه، وإنما لا يفعله لجهله بأنه يستحق اللعن...
والثاني- أن ذلك في الآخرة، لأن بعضهم يلعن بعضا...
والثالث -أن يحمل لفظ الناس على الخصوص، فيحمل على ثلاثة فصاعدا،... وإنما ذكر وعيد الكفار ههنا مع كونه مذكورا في مواضع كثيرة في القرآن، للتأكيد وتغليظا في الزجر لأنه لما جرى ذكر الكافر عقب ذلك بلعنه، ووعيده، كما إذا جرى ذكر المؤمن عقب ذلك بالرحمة ليكون أرغب له في فعل الطاعة والتمسك بالإيمان...
والمعنى أنه تعالى حكم بأن الذين كفروا بعد إيمانهم يمنعهم الله تعالى من هدايته، ثم بين أن الأمر غير مقصور عليه، بل كما لا يهديهم في الدنيا يلعنهم اللعن العظيم ويعذبهم في الآخرة، على سبيل التأبيد والخلود. واعلم أن لعنة الله، مخالفة للعنة الملائكة، لأن لعنته بالإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب واللعنة من الملائكة هي بالقول، وكذلك من الناس، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم فصح أن يكون جزاء... السؤال الأول: لم عم جميع الناس ومن يوافقه لا يلعنه؟. قلنا: فيه وجوه... والثالث: كأن الناس هم المؤمنون، والكفار ليسوا من الناس،... الرابع: وهو الأصح عندي أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر، ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا بكافر، فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافرا، فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
اللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{أولئك} إشارة إليهم في أوصافهم السابقة، فالإشارة ليست إلى أشخاصهم؛ لأنه لم يذكر أشخاصا،إنما ذكر أوصافا،فالإشارة إلى من عندهم هذه الأوصاف،وقد ذكر سبحانه في هذه الآية الكريمة الجزاء الأول لهم، وهو اللعنة المؤكدة الثابتة المجمع عليها،وهي لعنة من الله وهي أعلاها،ولعنة من الملائكة،ولعنة من الناس أجمعين،أي انها لعنة من الخالق والمخلوقين العقلاء سواء منهم من كانت طبيعته روحية ملكية، ومن وكانت طبيعته إنسانية لها صلة بأعلاق الأرض ولها صلة بالروحانية السماوية؛ ذلك بان الظلم أبغض الصفات الإنسانية عند الله والناس،فالله سبحانه قد كتب العدل على نفسه،ولذا روى انه ورد في حديث قدسي:"يا عبادي إني قد حرمت الظلم على نفسي فلا تظلموا"، والظالمون الذين سيطر الغرض والهوى على نفوسهم فلا يؤمنون بشيء، ولا يذعنون للحق إذا عارض أهواءهم الظالمة،لا يحبهم أحد،فإن من غلب عليه هواه، وأحب نفسه أبغضه الناس...
وكون اللعنة تكون من الناس أجمعين معناه أن الفطرة الإنسانية السليمة كلها تتنكر وتلعن تلك القلوب المنحرفة التي لا تخضع لحق،ولا تؤمن للبينات،بل تتجه إلى طمس المعالم التي تنير وتهدي،فالمراد المعنى الإنساني العام لا الإحصاء والجمع لآحاد بني الإنسان...