القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مّشْرِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فأخرجنا فرعون وقومه من بساتين وعيون ماء ، وكنوز ذهب وفضة ، ومقام كريم . قيل : إن ذلك المقام الكريم : المنابر . وقوله كَذلكَ يقول : هكذا أخرجناهم من ذلك كما وصفت لكم في هذه الاَية والتي قبلها وأوْرَثْناها يقول : وأورثنا تلك الجنات التي أخرجناهم منها والعيون والكنوز والمقام الكريم عنهم بهلاكهم بني إسرائيل . وقوله : فَأتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فأتبع فرعون وأصحابه بني إسرائيل ، مشرقين حين أشرقت الشمس ، وقيل حين أصبحوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَأتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ قال : خرج موسى ليلاً ، فكسف القمر وأظلمت الأرض ، وقال أصحابه : إن يوسف أخبرنا أنا سَننجي من فرعون ، وأخذ علينا العهد لنخرجنّ بعظامه معنا ، فخرج موسى ليلته يسأل عن قبره ، فوجد عجوزا بيتها على قبره ، فأخرجته له بحكمها ، وكان حكمها أو كلمة تشبه هذا ، أن قالت : احملني فأخرجني معك ، فجعل عظام يوسف في كسائه ، ثم حمل العجوز على كسائه ، فجعله على رقبته ، وخيل فرعون هي ملء أعنتها حضرا في أعينهم ، ولا تبرح ، حُبست عن موسى وأصحابه حتى تواروا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله فَأتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ قال : فرعون وأصحابه ، وخيل فرعون في مل أعنتها في رأي عيونهم ، ولا تبرح ، حبست عن موسى وأصحابه حتى تواروا .
جملة : { وأورثناها بني إسرائيل } معترضة أيضاً والواو اعتراضية وليست عطفاً لأجزاء القصة لما ستعلمه . والإيراث : جعل أحد وارثاً . وأصله إعطاء مال الميت ويطلق على إعطاء ما كان ملكاً لغير المعطَى ( بفتح الطاء ) كما قال تعالى : { وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارقَ الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } [ الأعراف : 137 ] ، أي أورثنا بني إسرائيل أرض الشام ، وقال : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } [ فاطر : 32 ] .
والمعنى : أن الله أرزأ أعداء موسى ما كان لهم من نعيم إذ أهلكهم وأعطى بني إسرائيل خيرات مثلها لم تكن لهم ، وليس المراد أنه أعطى بني إسرائيل ما كان بيد فرعون وقومه من الجنات والعيون والكنوز ، لأن بني إسرائيل فارقوا أرض مصر حينئذ وما رجعوا إليها كما يدل عليه قوله في سورة الدخان ( 28 ) { كذلك وأورثناها قوماً آخرين } ولا صحة لما يقوله بعض أهل قصص القرآن من أن بني إسرائيل رجعوا فملكوا مصر بعد ذلك ، فإن بني إسرائيل لم يملكوا مصر بعد خروجهم منها سائر الدَّهر فلا محيص من صرف الآية عن ظاهرها إلى تأويل يدل عليه التاريخ ويدل عليه ما في سورة الدخان .
فضمير { أورثناها } هنا عائد للأشياء المعدودة باعتبار أنها أسماء أجناس ، أي أورثنا بني إسرائيل جناتتٍ وعيوناً وكنوزاً ، فعَود الضمير هنا إلى لفظ مستعمل في الجنس وهو قريب من الاستخدام وأقوى منه ، أي أعطيناهم أشياء ما كانت لهم من قبل وكانت للكنعانيين فسلط الله عليهم بني إسرائيل فغلبوهم على أرض فلسطين والشام . وقد يعود الضمير على اللفظ دون المعنى كما في قولهم : عندي درهم ونصفُه ، وقوله تعالى : { إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثُها إن لم يكن لها ولد } [ النساء : 176 ] ، إذ ليس المراد أن المرء الذي هلك يرث أخته التي لها نصف ما ترك بل المراد : والمرء يرث أختاً له إن لم يكن لها ولد ، ويجوز أن يكون نصب الضمير لفعل « أورثنا » على معنى التشبيه البليغ ، أي أورثنا أمثَالها . وقيل ضمير : { أورثناها } عائد إلى خصوص الكنوز لأن بني إسرائيل استعاروا ليلة خروجهم من جيرانهم المصريين مصوغهم من ذهب وفضة وخرجوا به كما تقدم في سورة طه .
ويجوز عندي وجه آخر وهو أن تكون جملة { فأخرجناهم من جنات } إلى قوله : { وأورثناها } حكاية لكلام من الله معترض بين كلام فرعون . وضمير { فأخرجناهم } عائد إلى قوم فرعون المفهوم من قوله : { في المدائن } [ الشعراء : 53 ] ، أي فأخرجنا أهل المدائن . وحذف المفعول الثاني لفعل { أورثناها } . والتقدير : وأورثناها غيرهم ، ويكون قوله : { بني إسرائيل } بياناً لاسم الإشارة في قوله : { إن هؤلاء } [ الشعراء : 54 ] سلك به طريق الإجمال ثم البيان ليقع في أنفس السامعين أمكن وقْع .
وجملة : { فأتبعوهم مشرقين } مفرعة على جملة : { فأخرجناهم } وما بينهما اعتراض . والتقدير : فأخرجناهم فأتبعوهم . والضمير المرفوع عائد إلى ما عاد عليه ضمير النصب من قوله : { فأخرجناهم } ، وضمير النصب عائد إلى { عبادي } [ الشعراء : 52 ] من قوله : { أن اسْرِ بعبادي } [ الشعراء : 52 ] .
و { أتْبعوهم } بهمزة قطع وسكون التاء بمعنى تَبع ، أي فلحقوهم .
و { مشرقين } حال من الضمير المرفوع يجوز أن يكون معناه قاصدين جهة الشرق يقال : أشرق ، إذا دخل في أرض الشرق ، كما يقال : أنجد وأتهم وأعرق وأشأم ، ويعلم من هذا أن بني إسرائيل توجهوا صوب الشرق وهو صوب بحر ( القلزم ) وهو البحر الأحمر وسمي يومئذ بحر سُوف وهو شرقي مصر . ويجوز أن يكون المعنى داخلين في وقت الشروق ، أي أدركوهم عند شروق بعد أن قضوا ليلة أو ليالي مشياً فما بصر بعضهم ببعض إلا عند شروق الشمس بعد ليالي السفر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأتبعوهم} يقول: فاتبعهم فرعون وقومه {مشرقين}، يعني: ضحى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَأتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ" فأتبع فرعون وأصحابه بني إسرائيل، مشرقين حين أشرقت الشمس، وقيل حين أصبحوا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} فلحقوهم في وقت إشراق الشمس وهو إضاءتها.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: حين أشرقت الشمس بالشعاع، قاله السدي... الثالث: أي بناحية المشرق، قاله أبو عبيدة. قال الزجاج: يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت...
وقرئ {مُشَرِّقِينَ} بالتشديد أي نحو المشرق مأخوذ من قولهم شرّق وغرّب إذا سار نحو المشرق والمغرب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة: {فأتبعوهم مشرقين} مفرعة على جملة: {فأخرجناهم} وما بينهما اعتراض. والتقدير: فأخرجناهم فأتبعوهم. والضمير المرفوع عائد إلى ما عاد عليه ضمير النصب من قوله: {فأخرجناهم}، وضمير النصب عائد إلى {عبادي} [الشعراء: 52] من قوله: {أن اسْرِ بعبادي} [الشعراء: 52]. و {أتْبعوهم} بهمزة قطع وسكون التاء بمعنى تَبع، أي فلحقوهم. و {مشرقين} حال من الضمير المرفوع يجوز أن يكون معناه قاصدين جهة الشرق يقال: أشرق، إذا دخل في أرض الشرق، كما يقال: أنجد وأتهم وأعرق وأشأم، ويعلم من هذا أن بني إسرائيل توجهوا صوب الشرق وهو صوب بحر (القلزم) وهو البحر الأحمر وسمي يومئذ بحر سُوف وهو شرقي مصر. ويجوز أن يكون المعنى داخلين في وقت الشروق، أي أدركوهم عند شروق بعد أن قضوا ليلة أو ليالي مشياً فما بصر بعضهم ببعض إلا عند شروق الشمس بعد ليالي السفر.