القول في تأويل قوله تعالى : { ثُلّةٌ مّنَ الأوّلِينَ * وَقَلِيلٌ مّنَ الاَخِرِينَ * عَلَىَ سُرُرٍ مّوْضُونَةٍ * مّتّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مّخَلّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مّعِينٍ * لاّ يُصَدّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مّمّا يَتَخَيّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمّا يَشْتَهُونَ } .
يقول تعالى ذكره : جماعة من الأمم الماضية ، وقليل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم الاَخرون وقيل لهم الاَخرون : لأنهم آخر الأمم على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ يقول : فوق سُرر منسوجة ، قد أدخل بعضها في بعض ، كما يوضن حلق الدرع بعضها فوق بعض مضاعفة ومنه قول الأعشى :
وَمِنْ نَسْج دَاوُدَ مَوْضُونَةً *** تُساقُ مَعَ الحَيّ عِيْرا فَعِيْرَا
ومنه وضين الناقة ، وهو البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض مضاعفا كالحلق حلق الدرع . وقيل : وضين ، وإنما هو موضون ، صرف من مفعول إلى فعيل ، كما قيل : قتيل لمقتول . وحُكي سماعا من بعض العرب أزيار الاَجرّ موضون بعضها على بعض ، يراد مشرج صفيف .
وقيل : إنما قيل لها سُرر موضونة ، لأنها مشبكة بالذهب والجوهر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا حصين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ قال : مرمولة بالذهب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الحصين ، عن مجاهد على سُرُر مَوْضُونَةٍ قال : مرمولة بالذهب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ قال : يعني الأسرة المرملة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن مجاهد ، قال : الموضونة : المرملة بالذهب .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، قوله : على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ قال : مشبكة بالدرّ والياقوت .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مَوْضُونَةٍ قال : مرمولة بالذهب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : على سُرُرٍ مَوْضُونَة والموضونة : المرمولة ، وهي أوثر السرر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، في قوله : مَوْضُونَةٍ قال مرمولة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، في قوله : على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ قال : مرملة مشبكة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ الوضن : التشبيك والنسج ، يقول : وسطها مشبك منسوج .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ الموضونة : المرمولة بالجلد ذاك الوضين منسوجة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنها مصفوفة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ يقول : مصفوفة .
اعتراض بين جملة { في جنات النعيم } [ الواقعة : 12 ] وجملة على { سرر موضونة } [ الواقعة : 15 ] .
و{ ثلة } خبر عن مبتدأ محذوف ، تقديره : هم ثلة ، ومعاد الضمير المقدر « السابقون » ، أي السابقون ثلة من الأولين وقليل من الآخرين .
وهذا الاعتراض يقصد منه التنويه بصنف السابقين وتفضيلهم بطريق الكناية عن ذلك بلفظي { ثلة } و { قليل } المشعرَيْن بأنهم قُلٌّ من كثر ، فيستلزم ذلك أنهم صنف عزيز نفيس لما عهد في العرف من قلة الأشياء النفيسة وكقول السموأل وقيل غيرِه :
تعيرنا أنّا قليل عديدنا *** فقلت لها : إن الكرام قليل
مع بشارة المسلمين بأن حظهم في هذا الصنف كحظ المؤمنين السالفين أصحاب الرسل لأن المسلمين كانوا قد سمعوا في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تنويهاً بثبات المؤمنين السالفين مع الرسل ومجاهدتهم فربما خامر نفوسهم أن تلك صفة لا تُنال بعدهم فبشرهم الله بأن لهم حظاً منها مثل قوله تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتهم على أعقابكم } إلى قوله : { وكأين من نبي قاتل معه ربّيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضَعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين } [ آل عمران : 144 146 ] وغيرها ، تلهيباً للمسلمين وإذكاء لهممهم في الأخذ بما يُلحقهم بأمثال السابقين من الأولين فيستكثروا من تلك الأعمال . وفي الحديث : " لقَد كان من قبلكم يوضع المِئْشار على أحدهم فينشر إلى عظمه لا يصده ذلك عن دينه " . والثُلَّة : بضم الثاء لا غير : اسم للجماعة من الناس مطلقاً قليلاً كانوا أو كثيراً ، وهذا هو قول الفراء وأهل اللغة والراغب وصاحب « لسان العرب » وصاحب « القاموس » والزمخشري في « الأساس » ، وقال الزمخشري في « الكشاف » إن الثلة : الأمة الكثيرة من الناس ومحمله على أنه أراد به تفسير معناها في هذه الآية لا تفسير الكلمة في اللغة .
ولما في هذا الاعتراض من الإِشعار بالعزة قدم على ذكر ما لهم من النعيم للإِشارة إلى عظيم كيفيته المناسبةِ لوصفهم ب ( السابقين ) بخلاف ما يأتي في أصحاب اليمين .
ومعنى : { الأولين } قوم متقدمون على غيرهم في الزمان لأن الأول هو الذي تقدم في صفة مَّا كالوجود أو الأحوال على غير الذي هو الآخِر أو الثاني ، فالأوّلية أمر نسبي يبيّنه سياق الكلام حيثما وقع .
فالظاهر أن { الأولين } هنا مراد بهم الأمم السابقة قبل الإسلام بناء على ما تقدم من أن الخطاب في قوله : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] خطاب لجميع الناس بعنوان أنهم ناس لأن المنقرضين الذين يتقدمون من أمة أو قبيلة أو أهل نحلة يُدعون بالأوليين كما قال الفرزدق :
وقال تعالى : { أو آباؤنا الأوّلون } [ الواقعة : 48 ] الذين هم يخلفونهم ويكونون موجودين ، أو في تقدير الموجودين يُدعون الآخرين .
وقد وُصف أهل الإسلام بالآخرين في حديث فضل الجمعة " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بَيد أنهم أُوتوا الكتاب مِن قبلنا " الحديث . وإذ قد وُصف السابقون بما دل على أنهم أهل السبق إلى الخير ووصفت حالهم في القيامة عَقِبَ ذلك فقد عُلم أنهم أفضل الصالحين من أصحاب الأديان الإِلهية ابتداء من عصر آدم إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى : { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } [ النساء : 69 ] .
فلا جرم أن المراد ب { الأولين } الأممُ الأولى كلها ، وكان معظم تلك الأمم أهل عناد وكفر ولم يكن المؤمنون فيهم إلا قليلاً كما تنبىء به آيات كثيرة من القرآن .
ووصف المؤمنون من بعض الأمم عند أقوامهم بالمستضعفين ، وبالأرذلين ، وبالأقلين .
ولا جرم أن المراد بالآخرين الأمة الأخيرة وهم المسلمون .
فالسابقون طائفتان طائفة من الأمم الماضين ومجموع عددها في ماضي القرون كثير مثل أصحاب موسى عليه السلام الذين رافقوه في التيه ، ومثل أصحاب أنبياء بني إسرائيل ، ومثل الحواريين ، وطائفة قليلة من الأمة الإسلامية وهم الذين أسرعوا للدخول في الإسلام وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100 ] ، وإذ قد كانت هذه الآية نزلت قبل الهجرة فهي لا يتحقق مفادها إلا في المسلمين الذين بمكة .
و { مِن } تبعيضية كما هو بيّن ، فاقتضى أن السابقين في الأزمنة الماضية وزمان الإسلام حاضِره ومستقبله بعض من كلًّ ، والبعضية تقتضي القلة النسبية ولفظ { ثلة } مشعر بذلك ولفظ { قليل } صريح فيه .
وإنما قوبل لفظ { ثلة } بلفظ { قليل } للإِشارة إلى أن الثلة أكثر منه . وعن الحسن أنه قال : سابقو من مضى أكثر من سابقينا .
وروي عن أبي هريرة " أنه لما نزلت : { ثلة من الأولين وقليل من الآخرين } شقّ ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحزنوا وقالوا : إذن لا يكون من أمة محمد إلا قليل ، فنزلت نصف النهار { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } [ الواقعة : 39 ، 40 ] فنسخت : { وقليل من الآخرين } " {[1]} . وهذا الحديث مشكل ومجمل فإن هنا قسمين مشتبهين ، والآية التي فيها { وثلّة من الآخرين } [ الواقعة : 40 ] ليست واردة في شأن السابقين فليس في الحديث دليل على أن عدد أهل مرتبة السابقين في الأمم الماضية مساوٍ لعدد أهل تلك المرتبة في المسلمين ، وأن قول أبي هريرة : « فنَسخت { وقليل من الآخرين } » يريد نسخت هذه الكلمة . فمراده أنها أبطلت أن يكون التفوق مطرداً في عدد الصالحين فبقي التفوق في العدد خاصاً بالسابقين من الفريقين دون الصالحين الذين هم أصحاب اليمين ، والمتقدمون يطلقون النسخ على ما يشمل البيان فإنه مورد آية : { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } [ الواقعة : 39 ، 40 ] في شأن صنف أصحاب اليمين ومورد الآية التي فيها : { وقليل من الآخرين } هو صنف السابقين فلا يتصور معنى النسخ بالمعنى الاصطلاحي مع تغاير مورد الناسخ والمنسوخ ولكنه أريد به البيان وهو بيان بالمعنى الأعم .