مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ} (13)

قوله تعالى : { ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين } وهذا خبر بعد خبر ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قد ذكرت أن قوله : { والسابقون السابقون } جملة ، وإنما كان الخبر عين المبتدأ لظهور حالهم أو لخفاء أمرهم على غيرهم ، فكيف جاء خبر بعده ؟ نقول : ذلك المقصود قد أفاد ذكر خبر آخر لمقصود آخر ، كما أن واحدا يقول : زيد لا يخفى عليك حاله إشارة إلى كونه من المشهورين ثم يشرع في حال يخفى على السامع مع أنه قال : لا يخفى ، لأن ذلك كالبيان كونه ليس من الغرباء كذلك هاهنا قال : { والسابقون السابقون } لبيان عظمتهم ثم ذكر حال عددهم .

المسألة الثانية : { الأولين } من هم ؟ نقول : المشهور أنهم من كان قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وإنما قال : { ثلة } والثلة الجماعة العظيمة ، لأن من قبل نبينا من الرسل والأنبياء من كان من كبار أصحابهم إذا جمعوا يكونون أكثر بكثير من السابقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا قيل : إن الصحابة لما نزلت هذه الآية صعب عليهم قلتهم ، فنزل بعده : { ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين } وهذا في غاية الضعف من وجوه ( أحدها ) أن عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان ، بالنسبة إلى من مضى في غاية القلة فماذا كان عليهم من إنعام الله على خلق كثير من الأولين وما هذا إلا خلف غير جائز ( وثانيها ) أن هذا كالنسخ في الأخبار وأنه في غاية البعد ( ثالثها ) ما ورد بعدها لا يرفع هذا لأن الثلة من الأولين هنا في السابقين من الأولين وهذا ظاهر لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم كثروا ورحمهم الله تعالى فعفا عنهم أمورا لم تعف عن غيرهم ، وجعل للنبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة فكثر عدد الناجين وهم أصحاب اليمين ، وأما من لم يأثم ولم يرتكب الكبيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهم في غاية القلة وهم السابقون ( ورابعها ) هذا توهم وكان ينبغي أن يفرحوا بهذه الآية لأنه تعالى لما قال : { ثلة من الأولين } دخل فيهم الأول من الرسل والأنبياء ، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا جعل قليلا من أمته مع الرسل والأنبياء والأولياء الذين كانوا في درجة واحدة ، يكون ذلك إنعاما في حقهم ولعله إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام : « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » ( الوجه الثاني ) المراد منه : { السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } فإن أكثرهم لهم الدرجة العليا ، لقوله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق } الآية .