ولفظ " حتى " فى قوله - تعالى - { حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ . . . } يقصد به ابتداء الكلام ، وإذا الأولى شرطية ، والثانية وهى قوله { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } رابطة للجواب .
أى : هم مستمرون على جحودهم وعنادهم ، حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد من أبواب عذاب الآخرة المعد لهم إذا هم فيه مبلسون ، أى : ساكتون من شدة الحيرة وآيسون من كل نجاء . يقال : أبلس فلان إبلاساً ، إذا سكت فى حيرة ويأس من الخلاص مما هو فيه من عذاب وبلاء .
وقريب من هذه الآيات فى المعنى قوله - تعالى - : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } وقوله - عز وجل - : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ }
هؤلاء الذين لايؤمنون بالآخرة ، والذين تنكبوا الطريق ، لا يفيدهم الابتلاء بالنعمة ، ولا الابتلاء بالنقمة . فإن أصابتهم النعمة حسبوا : ( أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات )وإن أصابتهم النقمة لم تلن قلوبهم ، ولم تستيقظ ضمائرهم ، ولم يرجعوا إلى الله يتضرعون له ليكشف عنهم الضر ، ويظلون كذلك حتى يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة فإذا هم حائرون يائسون .
( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون . ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون . حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ) . .
وهذه صفة عامة لذلك الصنف من الناس ، القاسية قلوبهم ، الغافلين عن الله ، المكذبين بالآخرة ، ومنهم المشركون الذين كانوا يواجهون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
والاستكانة والتضرع عند مس الضر دليل على الرجوع إلى الله ، والشعور بأنه الملجأ والملاذ . والقلب متى اتصل بالله على هذا النحو رق ولان ، واستيقظ وتذكر ، وكانت هذه الحساسية هي الحارس الواقي من الغفلة والزلل ، وأفاد من المحنة و انتفع بالبلاء . فأما حين يسدر في غيه ، ويعمه في ضلاله ، فهو ميؤوس منه لا يرجى له صلاح ، وهو متروك لعذاب الآخرة ، الذي يفاجئه ، فيسقط في يده ، ويبلس ويحتار ، وييأس من الخلاص .
و «العذاب الشديد » ، إما يوم بدر بالسيوف كما قال بعضهم وإما توعد بعذاب غير معين وهو الصواب لما ذكرناه من تقدم بدر للمجاعة ، وروي عن مجاهد أن العذاب والباب الشديد هو كله مجاعة قريش .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن كأن الأخذ كان في صدر الأمر ثم فتح الباب عند تناهيه حيث أبلسوا وجاء أبو سفيان ، والملبس : الذي قد نزل به شر ويئس من زواله ونسخه خير .
( إذا ) من قوله { حتى إذا فتحنا عليهم باباً } مثل ( إذا ) التي تقدمت في قوله { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } إلخ .
وفتح الباب تمثيل لمفاجأتهم بالعذاب بعد أن كان محجوزاً عنه حسب قوله تعالى : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] . وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى { ولو دُخلت عليهم من أقطارها } [ الأحزاب : 14 ] .
شبهت هيئة إصابتهم بالعذاب بعد أن كانوا في سلامة وعافية بهيئة ناس في بيت مغلق عليهم ففتح عليهم باب البيت من عدو مكروه ، أو تقول : شبهت هيئة تسليط العذاب عليهم بهيئة فتح باب اختزن فيه العذاب فلما فتح الباب انهال العذاب عليهم . وهذا كما مثل بقوله : { وفار التنور } [ هود : 40 ] وقولهم : طفحت الكأس بأعمال فلان ، وقوله تعالى : { فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم } [ الذاريات : 59 ] وقول علقمة :
ومنه قول الكتّاب : فتح باب كذا على مصراعيه ، تمثيلاً لكثرة ذلك وأفاض عليه سجلاً من الإحسان ، وقول أبي تمام :
من شاعر وقف الكلام ببابه *** واكتن في كنفيْ ذراه المنطق
ووصف { باباً } بكونه { ذا عذاب شديد } دون أن يضاف باب إلى عذاب فيقال : باب عذاب كما قال تعالى : { فصب عليهم ربك سوط عذاب } [ الفجر : 13 ] لأن { ذا عذاب } يفيد من شدة انتساب العذاب إلى الباب ما لا تفيده إضافة باب إلى عذاب ، وليتأتى بذلك وصف ( عذاب ) ب ( شديد ) بخلاف قوله { سوط عذاب } فقد استغني عن وصفه ب ( شديد ) بأنه معمول لفعل ( صب ) الدال على الوفرة .
والمراد بالعذاب الشديد عذاب مستقبل . والأرجح : أن المراد به عذاب السيف يوم بدر . وعن مجاهد : أنه عذاب الجوع .
وقيل : عذاب الآخرة . وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الباب حقيقة وهو باب من أبواب جهنم كقوله تعالى : { حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها } [ الزمر : 71 ] .
والإبلاس : شدة اليأس من النجاة . يقال : أبلس ، إذا ذل ويئس من التخلص ، وهو ملازم للهمزة ولم يذكروا له فعلاً مجرداً . فالظاهر أنه مشتق من البلاس كسحاب وهو المِسح ، وأن أصل أبلس صار ذا بَلاس . وكان شعار من زهدوا في النعيم . يقال : لبس المسوح ، إذا ترهب .
وهنا انتهت الجمل المعترضة المبتدأة بجملة { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ المؤمنون : 23 ] وما تفرع عليها من قوله { فذرهم في غمرتهم حتى حين } [ المؤمنون : 54 ] إلى قوله { إذا هم فيه مبلسون } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{حتى إذا فتحنا} يعني: أرسلنا {عليهم بابا ذا عذاب شديد} يعني: الجوع {إذا هم فيه مبلسون}، يعني: آيسين من الخير والرزق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: حتى إذا فتحنا عليهم باب القتال فقتلوا يوم بدر...
وقال آخرون: معناه: حتى إذا فتحنا عليهم باب المجاعة والضرّ، وهو الباب ذو العذاب الشديد... عن مجاهد، قوله:"حتى إذَا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ" قال: لكفار قريش الجوع، وما قبلها من القصة لهم أيضا...
وهذا القول الذي قاله مجاهد: أولى بتأويل الآية، لصحة الخبر الذي ذكرناه قبل عن ابن عباس، أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المجاعة التي أصابت قريشا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وأمر ثمامة بن أثال وذلك لا شكّ أنه كان بعد وقعة بدر.
وقوله: "إذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ "يقول: إذا هؤلاء المشركون فيما فتحنا عليهم من العذاب حَزَانَى نادمون على ما سلف منهم في تكذيبهم بآيات الله، في حين لا ينفعهم الندم والحزن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف في قوله: {مبلسون}، قال بعضهم: المبلس الآيس من كل خير... قال الزجاج: المبلس: الساكت المتحير، لا يدري ما يعمل به. فعلى ذلك هم كانوا حيارى لما نزل بهم العذاب لا يدرون ما يعملون به في رفع ذلك عنهم. وقال الكسائي: المبلس: المنقطع السيئ الظن. قال ومنه سمي إبليس لأنه آيس من رحمة الله، وانقطع رجاؤه عنده.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة وأخذهم من عقاب الله ما لم يكونوا يحتسبون، فعند ذلك أبْلَسُوا من كل خير، وأيسوا من كل راحة، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{حتى إذا فتحنا} أي بما لنا من العظمة، ودل على أنه فتح عذاب فقال: {عليهم باباً} من الأبواب التي نقهر بها من شئنا بحيث يعلوه أمرها ولا يستطيع دفعها {ذا عذاب شديد} يعني القتل والأسر يوم بدر -قاله ابن عباس رضي الله عنهما، أو القحط الذي سلطه عليهم إجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
" اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف "{إذا هم فيه} أي ذلك الباب مظروفون لا يقدرون منه على نوع خلاص {مبلسون} أي متحيرون ساكنون على ما في أنفسهم آئسون لا يقدرون أن ينطقوا بكلمة، داخلون في الإبلاس وهو عدم الخير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفتح الباب تمثيل لمفاجأتهم بالعذاب بعد أن كان محجوزاً عنه حسب قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]...
شبهت هيئة إصابتهم بالعذاب بعد أن كانوا في سلامة وعافية بهيئة ناس في بيت مغلق عليهم ففتح عليهم باب البيت من عدو مكروه، أو تقول: شبهت هيئة تسليط العذاب عليهم بهيئة فتح باب اختزن فيه العذاب فلما فتح الباب انهال العذاب عليهم...
ووصف {باباً} بكونه {ذا عذاب شديد} دون أن يضاف باب إلى عذاب فيقال: باب عذاب كما قال تعالى: {فصب عليهم ربك سوط عذاب} [الفجر: 13] لأن {ذا عذاب} يفيد من شدة انتساب العذاب إلى الباب ما لا تفيده إضافة باب إلى عذاب، وليتأتى بذلك وصف (عذاب) ب (شديد) بخلاف قوله {سوط عذاب} فقد استغني عن وصفه ب (شديد) بأنه معمول لفعل (صب) الدال على الوفرة.
والمراد بالعذاب الشديد عذاب مستقبل. والأرجح: أن المراد به عذاب السيف يوم بدر. وعن مجاهد: أنه عذاب الجوع. وقيل: عذاب الآخرة، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الباب حقيقة وهو باب من أبواب جهنم كقوله تعالى: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} [الزمر: 71].
والإبلاس: شدة اليأس من النجاة...
لقد فشلت معهم كل المحاولات، فما أجدت معهم الرحمة واستمروا على غلوائهم، وما أجدى معهم العذاب وما استكانوا بعد أن أخذهم الله به، إذن: لم يبق لهم حجة ولا أمل في النجاة، ففتح الله عليهم {بابا ذا عذاب شديد} يعني: أصابتهم محنة كأنهم من وراء باب مغلق تفاجئهم {إذا هم فيه مبلسون} آيسون من النجاة متحسرون على ما فاتهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وهناك احتمال أنّ الآية لا تختّص بفئة معيّنة، بل هي استعراض لقانون شامل عامّ للعقوبات الإلهيّة، يبدأ من الرحمة، فالتنبيه والعقاب التربوي، وينتهي بعذاب الاقتلاع من الجذور والدمار.